الشلانقي ما خلا عميان

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

“الشلانقي ما خلا عميان”؛ مثلٌ دارفوريٌ قديم، يُحكى عن طبيب العيون المحلي الذي يُعرف بـ”الشلانقي” أنه بلغ من البراعة حدّاً لم يُبقِ فيه أحداً أعمى. لكن، كما في كثيرٍ من الأمثال الشعبية، تتجاوز الدلالة ظاهر المعنى لتصل إلى عمقٍ رمزيٍّ أشمل. فـ”الشلانقي” هنا لا يُمثل فقط الطبيب الماهر، بل يرمز للوعي، ولمن يملك القدرة على إزالة غشاوة الجهل، وفتح الأعين على الحقيقة، وكشف زيف التضليل.

غير أن الواقع اليوم يُشير إلى أن “الشلانقي” أمامه مشوارٌ طويل وشاق. فرغم ما نعيشه من انفجارٍ معرفي، وتقنيات اتصالٍ لم يكن الجيل السابق ليتخيلها، إلا أن العيون ما تزال مغمضة، والقلوب مغلقة، والعقول محصّنة ضد كل ما يمت للوعي بصلة. فكم من إنسانٍ يرى ولا يُبصر، وكم من متعلّمٍ لا يفقه، وكم من مثقفٍ يسير في ركاب الجهل المُزيَّن!

وفي المقابل، هناك من انكشفت عن أعينهم الغشاوة، فإذا هم “مبصرون” لا بالعين فحسب، بل بالبصيرة. تفتحت قلوبهم للحقيقة، وانفتحت عقولهم للمعرفة، وكأنهم وُلدوا من جديد في عالمٍ لم يكونوا يرونه من قبل.

إننا اليوم في حاجة ماسة إلى “شلانقي” من نوعٍ جديد، لا يحمل حقيبة دواء، بل مشروع وعي. شلانقي لا يقتصر عمله على إعادة البصر، بل يعمل على تنوير البصيرة، وتحرير الفكر من الأغلال التي كبّلته لعقود. “الشلانقي” المعاصر يجب أن يكون المفكر، والمعلم، والكاتب، وصاحب المبادرة؛ لا من يُردد ما يُملى عليه، بل من يفتح الدروب للآخرين كي يُفكروا، ويُبدعوا، ويُقرروا بأنفسهم.

لكن هذه المهمة النبيلة تواجه تحديات جسام، أبرزها سيطرة أبواق التلقين، وأمراء الدعاية، وحراس الجهل. فثمة من يظن نفسه أدرى الناس بواقع الأشياء، بينما هو غارق في قوالب التفكير القديم، يُعيد إنتاج مفاهيم بائدة، ويسعى إلى تثبيت الواقع كما هو، وكأن الزمن لا يتغير.

ترى بعضهم يظن أن التوظيف حكرٌ على فئة بعينها، وكأن الوظائف صكوك ملكية تُوزّع حسب الانتماء، لا حسب الكفاءة. يُجيّشون آلة إعلامية لتبرير الامتيازات، ويُلبسون المصالح الشخصية ثوب الوطنية، ثم يصرخون في وجه من يُطالب بالعدالة قائلين: “من أعطاك الحق؟”. هذا التفكير هو عين العمى الذي يجب أن يُعالج.

ويجب أن يعرف هؤلاء أن الحركات لا تقاتل من أجل مكاسب نخبة معيّنة، بل من أجل وطنٍ “حدادي مدادي”. لكن من هو صاحب المشروع؟ حين يكون المقابل “وظيفة”، لا مشروعاً وطنياً، فإننا أمام إعادة إنتاج لتاريخٍ ظل فيه البعض يعتقد بأنه يوقّع على مشروع خاص به، بينما البقية مجرد أصحاب مصالح، لا مبادئ. لقد بات التغيير، في نظر البعض، مجرد تبادل مواقع في مسرح العبث، لا إعادة هيكلة حقيقية لواقعٍ مأزوم.

ورغم كل هذه التحديات، فإن الأمل لا يموت. بلادنا غنية بثرواتها، وبشبابها، وبثقافاتها المتنوعة، لكنها مقيدة بأغلال الماضي، ومكبّلة بأوهام الانتماء الأعمى، وسجينة عقلية الاستعلاء والتصنيف. لهذا، فإن إعادة تعريف “الشلانقي” في وعينا الجمعي هو ضرورة وطنية لا من باب الحنين للماضي، بل من باب تجديد الرمزية، ليغدو الشلانقي رمزاً للمثقف الحر، والمعلم المُلهم، والقائد الصادق، لا للمتسلقين على أكتاف البسطاء.

أولئك الذين استخدموا المراحيل كبُندُقجية، وبذات العقلية استخدموا ميليشيا الدعم السريع، منذ أن كانوا مجرد مليشيا، قبل أن يتم تقنينهم بالقوانين الصادرة حسب رغبة “رب العمل”. لماذا تقاتل الحركات المسلحة إذا لم يكونوا شركاء في الوطن؟ لماذا يقدمون التضحيات، ويُستشهد خيرة شبابهم، إذا كانوا مجرد أُجراء لا شركاء؟ ولمصلحة من يعمل عبد الرحمن عمسيب الذي ينشر الكذب ويتناول التاريخ من زاوية استعلائية؟ ولمصلحة من يعمل شيبة ضرار الذي يهذي بساقط القول ولا يدري ماذا يقول؟ حتى أصحاب السوابق يقولون !

البعض يتحدث ويدعي أنه يستند إلى قيم الديمقراطية ، بينما هذه القيم تتعارض مع احتكار السلطة والنفوذ من قبل جهات معينة. فحين يحتكر فرد أو مجموعة السلطة والنفوذ، فإن ذلك يُقوّض المشاركة العادلة والتمثيل المتساوي في عملية صنع القرار، مما يؤدي إلى الاستبداد. فمن هو المستبد هذا؟

 

يرتدون ثوب الديمقراطية التي تعني حكم الشعب بينما يدعون إلى احتكار السلطة والنفوذ، والذي يتم عبره حرمان غالبية السكان من حقهم في المشاركة الفاعلة في إدارة شؤونهم. إن احتكار السلطة يؤدي إلى عدم المساواة في توزيع الموارد، مما يُنتج طبقة متخمة يعاني أفرادها من أمراض الشبع (أمراض الثراء) مثل: أمراض القلب، وداء السكري، والسمنة المفرطة، فيبحثون عن سبل التخسيس أو العلاج بملايين الجنيهات على حساب الآخرين. بينما تُترك الكثرة البائسة تبحث عن علاج أمراض الفقر، مثل:

كواشيوركور – السُغُل –

فقر الدم – الإسهال المزمن – انكماش الأعضاء الحيوية كالقلب والرئتين

فالديمقراطية الحقيقية تعني مشاركة الشعب في صنع القرار. أما احتكار السلطة، فإنه يحرم الشعب من هذه المشاركة، ويقمع التعددية الفكرية والرأي الآخر، مما يحدّ من الإبداع والتطور.

وختاماً، يظل المثل الدارفوري “الشلانقي ما خلا عميان” نداءً صادقاً بأن النهضة تبدأ من الفكر، وأن أعظم علاج للعمى هو نور المعرفة. وعلينا جميعاً أن نكون “شلانقيّة” هذا العصر نحمل مصابيح الوعي، ونضيء بها دروب الحقيقة، علّنا نُبصر وطناً يليق بأحلامنا.