ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في السودان، فُرض حظر استهلاك الخمور على المسلمين في سبتمبر 1983، تزامنًا مع تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية، والتي جرّمت إنتاج وبيع وتعاطي الكحول. ورغم هذا الحظر، استمرّ استهلاك الخمور سراً، خصوصًا المشروبات المحلية مثل “المريسة” والعرقي، في ظل حملات متكررة من الشرطة تستهدف أماكن تصنيع وترويج هذه المشروبات.
وفي عام 2020، تم تعديل القانون ليسمح لغير المسلمين بشرب وبيع الكحول، بينما بقي تجريمه قائمًا بين المسلمين. ساهم التيار العلماني في الدفع نحو هذه التعديلات، غير أن حملات إتلاف الخمور استمرت، مغذّيةً الجدل السياسي بل يربضه البعض من دعاة تحليل الخمر الموروث الثقافي مثل وزير العدل في حكومة قحت دكتور نصر الدين عبد الباري الذي قال ان وزارة العدل بدأت في إقرار إصلاحات قانونية تقضي بإلغاء قوانين النظام العام ، التي اتخذها النظام السابق أداةً لإذلال السودانيين، والنساء خاصة، والنساء المنحدرات من الطبقات والمناطق المهمشة، على وجه أخص. وقد وجد إلغاء تلك القوانين ترحيباً على المستويين المحلي والدولي كأول مؤشر على إن الحكومة الانتقالية تسير بخطوات حثيثة لتحرير السودانيين من ترسانة القوانين التي قُصد منها تكبيلهم بمصادرة حقوقهم الأصيلة المستمدة من كرامتهم الإنسانية قبل أي ميثاق دولي أو محلي للحقوق والحريات حسب قوله
لكن جاءت أحدث هذه الحملات بقيادة الرائد خلا شيراز خالد محمد الأمين، مسؤولة دائرة العنصر النسوي في مليشيا الدعم السريع بقطاع غرب كردفان، والتي قامت بدَلق “جرار المريسة”، مُستعيدةً بذلك سلوك شرطة النظام العام في عهد الإنقاذ.
لكن لفهم أعمق للأزمة، لا بد من تصحيح السردية الشائعة التي تربط بين فرض الشريعة الإسلامية وبين تمرد الحركة الشعبية لتحرير السودان. هذه الرواية خاطئة تاريخيًا؛ إذ تأسست الحركة في 16 مايو 1983، بينما تم إعلان قوانين الشريعة في 13 سبتمبر من نفس العام، في عهد الرئيس المخلوع جعفر محمد نميري. أي أن التمرد سبق دَلق المريسة، ولم يكن ردّ فعل على قوانين دينية أو دفاعًا عن الموروث الثقافي كما يُروّج البعض، بل كان جزءًا من خطة مدروسة عُرفت بـ”الخطة أ”، استهدفت السيطرة على أهم الحاميات العسكرية في الجنوب:
الكتيبة (116) جوبا – بقيادة جيمس لورو
الكتيبة (110) أويل – بقيادة بول أكول أكول
الكتيبة (117) كبويتا – بقيادة ستولينو أريكا
الكتيبة (111) رمبيك
الكتيبة (104) أيود – بقيادة ويليام نيون بانج
الكتيبة (105) بور – بقيادة النقيب ألير منقار
حامية فشلا وبيبور – بقيادة كاربينو كوانيين بول
حامية أكوبو – بقيادة الملازم فنست كوانج والعريف بول كور
ورغم توقيع مليشيا الدعم السريع اتفاقًا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وتبنّي بعض من أطروحاتها كالعلمانية، فإن الحملة التي قادتها الرائد خلا شيراز أعادت خطاب النظام السابق إلى الواجهة، عبر ممارسات بوليسية مستفزة للوجدان الثقافي المحلي كما قيل أيام الهيجان الثوري ولكن لاحقًا، خرجت شيراز ببيان اعتذاري لافت، أوضحت فيه أن الحملة لم تكن موجهة ضد أي مكون ثقافي، بل جاءت استجابة لشكاوى المواطنين وبدافع “الغيرة المجتمعية”، مؤكدة احترامها للتنوع الثقافي، ومعلنة التزامها بتوجيهات لجنة أمن ولاية غرب كردفان بعدم تكرار مثل هذه الممارسات، حتى وإن وافقت هواها الديني.
غير أن هذا الاعتذار لم يكن نتيجة مراجعة قيمية أو محاسبة مؤسسية، بل نابع من الخشية من استفزاز الحركة الشعبية، الحليف الحالي للمليشيا، والتي تتمسك بعلمانية الدولة وتجد دعمًا وسط بعض قوى اليسار. لذلك كان اعتذار شيراز أشبه برسالة تهدئة سياسية، لا تعبيرًا عن وعي بخطأ وقع.
المثير أن البيان يكشف بوضوح استعداد الجنجويد لارتداء أي عباءة: دينية، علمانية، أو حتى ثقافية، ما دامت تحفظ مصالحهم في السلطة والثروة. فغياب المرجعية القيمية والأخلاقية عن تكوين الدعم السريع يجعلها كيانًا متقلبًا، يغيّر خطابه حسب البيئة والمصلحة، بلا بوصلة فكرية واضحة أو مشروع سياسي حقيقي. وهو ما يفسّر التراجع السريع عن حملة بدت وكأنها تستند إلى القيم الدينية، ثم انقلب عليها لمجرّد احتمال فقدان تأييد الحلفاء.
ولا يمكن فهم هذا التحوّل بمعزل عن السياق التاريخي. فالحركة الشعبية، رغم كل خلافاتها مع الإسلاميين والقوميين، ليست فصيلًا يمكن خداعه بسهولة. فذاكرة شعب جبال النوبة مثقلة بالدماء والانتهاكات التي بدأت منذ تأسيس مليشيا الجنجويد عام 1987، في عهد حكومة الصادق المهدي، ووزير دفاعه حينها فضل الله برمة ناصر، حين تم تسليح المليشيا بقيادة محمد عبد الله الكلس وناصر محمد ناصر وغيرهم، وبدأت سلسلة من الجرائم والانتهاكات في جبال النوبة والجنوب.
ولذا فإن محاولات الجنجويد التقرب من الحركة الشعبية بالاعتذارات أو تبني الشعارات لن تجد نفعًا؛ فالفجوة بين الطرفين بنيوية وعميقة. خصوصًا في ظل طموحات عبد العزيز الحلو المعلنة بالوصول إلى رئاسة الوزراء، في منافسة مع أسماء مثل الوليد مادبو، محمد حسن التعايشي، وحذيفة أبو نوبة، ضمن صراع سياسي مفتوح لا مكان فيه لمليشيات بلا مشروع.
والأدهى أن خطة الحلو للاستفادة من الدعم الإماراتي، عبر أموال محمد بن زايد، بدأت تؤتي أُكُلها، في الوقت الذي تتخبط فيه مليشيا الدعم السريع بحثًا عن أي فرصة لإعادة التموضع، بعد أن فقدت كثيرًا من أوراقها السياسية والإقليمية.
خلاصة القول أن العلاقة بين مليشيا الدعم السريع والحركة الشعبية لتحرير السودان هشة للغاية، لا ترقى حتى إلى خيط عنكبوت، وما يُروّج له من “شهر عسل” بين المتمردين لا يعدو أن يكون وهمًا سياسيًا هشًا، سرعان ما سينهار أمام أول اختبار جاد. فالتناقضات الجذرية بين مشروع الجنجويد الذي نشأ أساسًا لإجهاض الحركات المطلبية، وبين مشروع الحلو الذي يستند إلى رؤية واضحة للدولة المدنية والعلمانية، لا يمكن تسويتها لا ببيانات الاعتذار، ولا بابتسامات التودد السياسي.