ضل الحراز: علي منصور حسب الله
يبدو أن الأستاذ الحسين إسماعيل أبو جنة يظن جماجمنا مشوّهة، أو ربما شبيهة بجماجم “رجال النمل” الذين كانوا يتعمّدون تشويه جماجمهم قبل نحو 300 ألف سنة، في طقس يُعرف بتشويه الجمجمة القِحفي الصناعي. كان هذا يتمّ بربط رأس الطفل أو الضغط عليها بواسطة ألواح وأشرطة، بهدف تغيير شكل الجمجمة لتصبح مسطّحة أو ممدودة، عندما تكون عظام الرأس ما زالت لينة.
وقد عُرفت هذه العادة لدى شعب “الموستيريين” القدماء في منطقة شانيدار شمال العراق، خلال العصر الحجري الأوسط (بين 300,000 و30,000 سنة قبل الميلاد)، وهي قريبة من مفهوم “الميرميدون” أو “رجال النمل” في الأساطير اليونانية، تلك الكائنات الغريبة في مظهرها وسلوكها.
ولأن صديقنا أبو جنة مغرم بالتشويه المتعمّد للوقائع والسياقات، فلا عجب أن يختار لعموده الصحفي عنوان “جماجم النمل”. ولعله يقصد بها “جماجم الميرميدون”، كناية عن التشويه الرمزي والفكري، لا العضوي فقط. وقد كتب مؤخرًا في عموده منتقدًا والي جنوب دارفور على خلفية القرار رقم (13) القاضي بتكوين لجنة شعبية لإسناد امتحانات الشهادة الثانوية، واصفًا هذه اللجنة بأنها جاءت وفق “فقه القربى والمزاج والمجاملات”، ومتهماً الوالي بالانحياز لأبناء عشيرته ومقربيه، ومتجاهلًا مكونات الولاية الأخرى.
لكن، إذا كان الأستاذ أبو جنة يقدّم نفسه باعتباره حارسًا نزيهًا للمعايير الأخلاقية والوطنية، فإننا نطرح عليه سؤالًا مشروعًا:
هل جميع الولاة في السودان يشرفون بأنفسهم على لجان الامتحانات؟
أم أنهم – كما فعل والي جنوب دارفور – كوّنوا لجانًا متخصصة وتكفّلوا بتوفير الغطاء السياسي والدعم الإداري لها، وهو النهج الإداري المتبع في معظم ولايات السودان؟ فما معيار التفرد أو الخطأ الذي جعل جنوب دارفور – بنظره – حالة شاذة تستحق التنديد؟
جدير بالذكر أن الأستاذ أبو جنة كان من أوائل المهللين لتحالف “هَبَتْ”، ذلك التحالف الذي وُلد في رحم عنصري بغيض، وكان هو عرّابه الإعلامي. وساهم بكتاباته المتكررة في توفير الغطاء الثقافي والسياسي لذلك الخطاب، حتى أصبحت الفكرة ثقافة استخدمتها الميليشيات المسلحة في الاستنفار القبلي، الذي دمّر السودان ومزّق نسيجه الاجتماعي.
فهل نسي الأستاذ أبو جنة أن التحالف الذي دافع عنه طويلًا كرّس ذات المحاصصة القبلية التي ينتقدها اليوم بجرأة انتقائية؟
لنعد إلى لجان إسناد الامتحانات:
لجنة النيل الأبيض يرأسها الأستاذ صلاح صالح الدومة، معتمد رئاسة سابق وقيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي، من أصول شمالية. وكان رئيس لجنة السكن والإعاشة خلال الدورة المدرسية (28) بنيالا. وأبناء شمال ووسط السودان كان لهم وما يزال دورهم الفعّال في تنمية جنوب دارفور: في برام، وكأس، ونيالا، وغيرها من مدن وقرى الولاية.
لجنة نهر النيل يرأسها الأستاذ جبريل يعقوب، أحد كوادر وزارة التربية والتعليم وإدارة النشاط الطلابي في جنوب دارفور، وهو في الوقت ذاته ابن عم الأستاذ أبو جنة.
فأين هي “أقارب الوالي” التي انتقدها أبو جنة؟
ثم، لماذا تجاهل أن من بين أعضاء اللجنة أقارب له هو شخصيًا؟
فهل كان الغضب لأن اسمه لم يدرج في أي من هذه اللجان؟
وإن أراد الأستاذ أبو جنة فتح ملفات المحسوبية، فليكن ذلك بشجاعة:
من هو الوالي الذي أعاد موظفًا مدانًا في وزارة المالية بعد أن قضى ستة أشهر في سجن “كوريا” بنيالا، فقط لأنه من قبيلته؟
من هو الموظف المختلس لـ 40 مليون جنيه، الذي تداعت قبيلته بوفد من 40 شخصًا من قيادات سياسية وقبلية للتوسط له عند الوالي، فتم الإفراج عنه دون محاسبة؟
من هم الولاة الذين عيّنوا 145 ضابطًا إداريًا من ثلاث قبائل فقط من أصل 160 فرصة وظيفية؟
من هم الذين حوّلوا بورصة نيالا إلى تركة حصرية لعائلة واحدة، يتداولها أبناؤها لأكثر من عشرين عامًا؟
من هو الوالي الذي عيّن 27 كاتب تحصيل من جملة 28 من قبيلته فقط؟
من هو الموظف الذي كان يأتي إلى العمل مخمورًا وظل محميًا؟ ومن أي قبيلة كان موظف وزارة التخطيط العمراني الذي ضُبط بالتزوير؟
ما تفاصيل الموظف المدان في وزارة الزراعة الذي زور 9 وظائف وظل يصرف مرتباتهم لأكثر من عشر سنوات؟
من هو راعي البقر الذي كان يصرف راتب موظف من الدرجة الخامسة؟ وفي أي محلية تم تعيين رجل في وظيفة مرضعة وامرأة في وظيفة مؤذن؟ وما علاقة الوالي بذلك؟
نسأل الأستاذ أبو جنة:
إذا كنت من دعاة مناهضة المحسوبية، فلماذا لا تبدأ بكشف الملفات التي كنت أنت جزءًا من الصمت عنها سابقًا؟ لماذا تحوّلت فجأة من أبرز المدافعين عن الوالي بشير مرسال حسب الله إلى منتقد شرس له بعد قراراته التي طالت الإدارات الأهلية وأوقفت مرتبات المتعاونين مع الميليشيات؟
ما الذي حدث؟ هل خلاف شخصي؟ أم تضارب مصالح؟
وماذا دار تحديدًا بينك وبين الوالي خلال زيارته إلى النيل الأبيض، ثم إلى متحرك “الصياد”؟ نحن نعلم، والناس تعلم، والوثائق موجودة.
في الختام: نقول للأستاذ أبو جنة: أنت حر في التعبير عن رأيك، لكن ما لا يُقبل هو تحوير القضايا العامة إلى معارك انتقائية تُدار بمزاجٍ شخصي.
وإذا كانت “جماجم النمل” هي مجازك المفضل، فاعلم أن “رجال النمل” – كما في الأسطورة – لا يخذلون معاركهم، ولا يتقلبون مع المصالح، ولا يفرّقون بين أبناء جلدتهم على أسس قبلية وانتقائية.
وسنواصل، فالملفات كثيرة، والأسماء أوضح من أن تُخفى خلف أقنعة الصحافة.