صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
في رحاب الحكمة الخالدة، يصدح صوت الشاعر العظيم أبي الطيب المتنبي ببيتٍ يختزل جوهر البصيرة، ويحمل في طياته تحذيراً أزلياً يتجاوز حدود الزمان والمكان:
إذا لم يُغبِّر حائِطٌ في وقوعه
فليس له بعد الوقوع غُبارُ
ليست مجرد قافية عابرة، بل نبراسٌ يضيء دروب الغفلة، ويُشير إلى أن الخطر، إن لم يُحسب حسابه، ويُستعد له قبل أن يضرب بجذوره في أرض الواقع، فإن الندم لن يكون له أي أثر بعد فوات الأوان.
إنها دعوةٌ صريحةٌ لليقظة، وتحذيرٌ من مغبة الانشغال بالراهن القريب، وإغفال ما قد يتربص بنا من كوارث بعيدة، لكنها حتمية الوقوع إن لم نُدرك أبعادها ونستعد لها.
فالحائط الذي ينهار فجأة دون سابق إنذار، لا يثير غباراً عند سقوطه، لأنه لم يكن هناك من يرى غباره وهو يتصدع ببطء، ولم يكن هناك من يحاول ترميمه قبل أن ينهار كلياً.
هذه الحكمة العميقة، التي صاغها المتنبي ببراعة، تبدو وكأنها كُتبت خصيصاً لعصرنا هذا، حيث تتسارع الأحداث، وتتداخل المصالح، وتُحاك المؤامرات في الخفاء، بينما يظل الكثيرون غارقين في تفاصيل اللحظة، غير مدركين لحجم العواصف التي تتجمع في الأفق البعيد.
لعل هذه الحكمة المتنبئية تجد صداها الأعمق في قلب واقعنا المعاصر، حيث تتكشف فصول مأساة السودان، التي تُحاك خيوطها على مرأى ومسمع من العالم.
فها هي مليشيات آل دقلو، تلك القوة الغاشمة التي لا تعرف للرحمة سبيلاً، قد شرعت في تنفيذ مخططاتها الشيطانية، مستغلةً ضعف الحال وتشتت الصف، لتغيير ديموغرافية السودان، هذا الوطن العريق الذي يزخر بالكنوز الظاهرة والباطنة.
إنها تسعى جاهدةً لاستبدال سكانه الأصليين، أولئك الذين استخسرت فيهم بقاءهم على أرضٍ طالما احتضنتهم، وكأنها ترى في وجودهم عائقاً أمام أطماعها اللامحدودة.
لقد صدر قرار التهجير القسري، أو الإبادة الجماعية، أو حتى الاسترقاق في أسوأ الحالات، وكأن البشر مجرد أرقام تُحذف وتُضاف على لوحة شطرنج عالمية.
لا تهم الوسائل، فكلها مباحة في قاموس الطغاة، المهم هو إجلاء هؤلاء السكان الأبرياء، وترك الأرض بوراً، لتُزرع فيها بذور المصالح التي تعود بالنفع الوفير على خزائن البيت الأبيض في واشنطن، حيث تُدار خيوط اللعبة الكبرى، وتُحدد مصائر الأمم والشعوب.
وفي خضم هذه المأساة، تتجه الأنظار، بل القلوب، إلى قيادة الجيش السوداني، تلك المؤسسة العسكرية التي يعوّل عليها الشعب المكلوم، الذي بات وقوده لهذه الحرب الضروس، لنجدته من براثن هذا المستعمر الجديد.
إنها القيادة التي يُنتظر منها الفداء والتضحية من أجل الوطن والأرض، ولكنها، ويا للأسف، تبدو وكأنها تتباطأ في اتخاذ القرار الحاسم، القرار الذي يقطع الطريق على أطماع الغزاة الجدد.
فهل من المعقول أن تظن هذه القيادة أن تحرير الخرطوم، العاصمة التي باتت مسرحاً لدماء الأبرياء، هو النصر الأكبر على مليشيا آل دقلو؟ إنها مصيبة كبرى إن اعتقدت ذلك، فالخرطوم، وإن كانت رمزاً، لم تكن يوماً الهدف الأوحد الذي يُقصد به القضاء على السودان برمته.
إنها مجرد حلقة في سلسلة طويلة من المخططات الخبيثة التي تستهدف كيان هذا الوطن العظيم.
إن المعركة الحقيقية تدور رحاها في أماكن أخرى، في بؤر الصراع التي تُشعلها الأيادي الخفية، وتُغذّيها الأطماع الدولية.
إن الهدف الحقيقي للمليشيات، كما تتضح الصورة شيئاً فشيئاً، ليس محصوراً في السيطرة على العاصمة، بل يتجاوز ذلك بكثير. إن أعينهم مصوبة نحو الفاشر ودارفور، تلك البقعة الجغرافية التي تُعد مفتاح السودان وقلبه النابض.
فمن خلال السيطرة على دارفور، يمكنهم أن يمدوا أذرعهم الخبيثة ليقضوا على كل مدن السودان، مدينة تلو الأخرى، إذا ما سنحت لهم الفرصة، وهذا ما يجعلهم في حالة من النشوة والغطرسة، غير آبهين بالانتصارات الجانبية التي يحققها الجيش هنا وهناك.
إنهم لا يبالون بتحرير بعض المناطق، أو استعادة بعض المواقع، طالما أن هدفهم الاستراتيجي لم يُمس.
لن تسمع لهم صراخاً، ولن ترى منهم جزعاً، إلا حينما يتمكن الجيش من فك الحصار الخانق عن الفاشر، وحينما تقترب قواته من دخول مدينة نيالا، عاصمة جنوب دارفور، التي تُعد الشريان الحيوي للمنطقة.
في تلك اللحظة، وفقط في تلك اللحظة، يستحق الجيش أن يحتفل، وأن يعلن سيطرته الحقيقية على السودان، لأنها ستكون سيطرة على مفاصل البلاد، وعلى منابع القوة التي تستمد منها المليشيات وجودها.
قبل ذلك، كل ما عداه لا يعدو كونه مناوشات جانبية، لا تغير من حقيقة المشهد شيئاً، ولا تؤثر في مسار المخطط الكبير الذي يُحاك بليل.. طالما أن مليشيات آل دقلو لا تزال تفرض سيطرتها على نيالا، وتتحكم في مفاصل دارفور، فإن الحديث عن إعمار الخرطوم، أو حتى الاحتفال بتحريرها، يبدو وكأنه ضرب من ضروب العبث، أو نوع من استباق الأحداث والسير وسط الظلام الدامس.
فكيف يمكن أن نبني ونعمر في عاصمة، بينما الخطر الحقيقي يتربص بالوطن في أطرافه، ويهدد وجوده من جذوره؟ إنها محاولة لذر الرماد في العيون، وإيهام الشعب بانتصارات جزئية لا تُسمن ولا تُغني من جوع، بينما العدو يتقدم بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافه الاستراتيجية.
إن التركيز على الخرطوم وحدها، وإغفال ما يجري في دارفور ونيالا، هو تماماً كمن يرمم واجهة منزل آيل للسقوط، بينما أساساته تتهاوى، وكأننا نُخدع أنفسنا بأننا نُحقق نصراً، بينما الهزيمة الكبرى تلوح في الأفق.
إن البصيرة تقتضي أن نرى الصورة كاملة، وأن نُدرك أن المعركة ليست محصورة في بقعة جغرافية واحدة، بل هي حرب وجودية تستهدف كيان السودان بأكمله.
إن ما يجري في واشنطن من محاولات لتعطيل مسيرة الفتح والتحرير، ومن عرقلة لتقدم فيالق البراء نحو تخوم الفاشر، ليس سوى جزء من المخطط الأكبر الذي يهدف إلى إبقاء السودان في حالة من الفوضى والضعف.
إن رد الفعل الذكي، الذي يمليه منطق البصيرة والحكمة، هو أن تزيد القيادة من وتيرة الحركة والتشوين، وأن تُسرع الخطى لفك حصار الفاشر اليوم قبل الغد.
فكل يوم يمر، وكل لحظة تضيع، هي ثمن باهظ يدفعه الوطن من دماء أبنائه، ومن كرامة أرضه. وإلا، فإننا سنبكي غداً على وقوع الحائط، وسنندم حيث لا ينفع الندم، وسنرى السودان وقد تحول إلى مجرد ذكرى في صفحات التاريخ، بعد أن أهملنا الخطر القادم، وانشغلنا بالانتصارات الزائفة، وغفلنا عن حكمة المتنبي الخالدة التي تحذرنا من غبار الحائط الذي لا يظهر إلا بعد فوات الأوان.
إنها دعوة أخيرة لليقظة، قبل أن يبتلعنا طوفان الغفلة، ويُلقي بنا في غياهب النسيان.
الدرس المستفاد من حكمة المتنبي، ومن مأساة السودان الراهنة، هو أن البصيرة لا تكمن في رؤية ما هو قريب وواضح فحسب، بل في استشراف ما هو بعيد ومحتمل.
وعلى القادة أن يُدركوا أن حماية الأوطان لا تتم بترميم الواجهات، بل بتحصين الجذور، وأن النصر الحقيقي لا يُقاس بتحرير مدينة، بل بصون كيان أمة.