حين يرحل الكبار بصمت.. كلمات في وداع الشيخ أحمد شمبال عبد الرحمنعلي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضل الحراز

 

 

بقلم علي منصور حسب الله

 

(إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم اجعل القرآن شفيعه والعمل الصالح رفيقه والجنة مأواه ومأوى أحبابه)

بالأمس فقط كتبتُ عن رحيل الشيخ الورِع محمد عبد المتعال الربيع إمام مسجد نيالا العتيق أحد الأئمة البررة الذين صانوا رسالة المنبر واحتضنوا الناس بالرفق والعلم كنت لا أزال أتنفّس الحزن على فَقْده ولم يجفّ بعد مداد الرثاء حتى جاءني نبأ جديد يشق القلب شقاً ويُثقل الروح ألماً في صباح هذا اليوم الثاني من أكتوبر 2025 ارتقى إلى جوار ربه الشيخ الجليل أحمد شمبال عبد الرحمن حسين الرجل الذي وهب حياته كلها لكتاب الله تعلماً وتعليماً وتربيةً للناشئة على الخُلق الكريم والطريق المستقيم غادر دنيانا بهدوء الكبار وعظمة الصالحين تاركاً في النفوس شوقاً وفي القلوب وجعاً لا يُخففهما سوى حسن الظن بالله والتسليم لقضائه وقدره من لم يعرف الشيخ أحمد شمبال فليعرف أن له مدرسة قرآنية عريقة في مدينة كبم بولاية جنوب دارفور تُعرف باسم خلاوي أحمد شمبال. ليست مجرد حُجرات من الطين يجتمع فيها الصبية بل صرح من الطُهر والعبادة بناه الشيخ لبنةً لبنة وسقاها من عمره ووقته وصحته وأعصابه فخرجت منه أجيال من الحفّاظ والعلماء وبعضهم اليوم في أعلى المناصب وأعلى مراتب العلم.

الشيخ أحمد لم يكن رجلاً عابراً في مدينة صغيرة بل كان شعلة من النور في زمن العتمة وركناً من أركان المجتمع الذي تمزق تحت الحرب والفقر والتيه لكنه ظلّ ثابتًا لا يتزعزع يُعلّم الصغار كتاب الله كما تعلّمه هو عن مشايخ وسلاسل من الورع والزهد وصولاً إلى سلف هذه الأمة

يكفي إنه والد العلماء وسند الأسرة وصوت الحكمة ولم يكن الراحل مجرّد شيخ قرآن بل كان والداً للعُلماء ومربياً لجيل من الأبناء والبنات الذين ساروا على خُطاه في طلب العلم وخدمة الناس كيف لا وهو والد الدكتور بشير والمهندس أيوب

وخال كلّ من الفريق أول أحمد إبراهيم علي مفضل ود. آدم إبراهيم مفضل ود. حسن إبراهيم مفضل ود. علي إبراهيم مفضل ومفضل إبراهيم مفضل وغيرهم من الأطباء والمهندسين والضباط والعلماء وقادة المجتمع هذه الأسماء ليست مجرد ألقاب بل هي ثمرة من غرس رجال عاشوا حياةً زاخرة بالصبر والإيمان والاتكال على الله ووهبوا انفسهم للتربية والتعليم فكان له ما ارادوا ذرية طيبة وذكر حسن وأثر خالد لا تمحوه السنون منهم بكل تأكيد الشيخ الورع أحمد شمبال عبد الرحمن حسين لم أتشرف بلقاء الشيخ أحمد شمبال لكنّي سمعت عنه كثيراً وكنت على موعد مؤجّل للذهاب إلى كبم برفقة الصديق الراحل هارون محمود هارون الذي كان يحدثني بإعجاب عن (تجربة الشيخ أحمد) في الخلاوي وكان يلحّ عليَّ بأن أزوره وأوثّق لتجربته النادرة كان يقول لي (لن تُصدّق أن في هذا الزمان وفي هذا المكان يقصد كبم شيخاً يعلّم القرآن كما كان يُعلّمه السلف بالحب والرِّفق والقدوة لا بالضرب والترهيب) لكن رحل هارون… ورحل الشيخ… ولم يكتمل الموعد ومع ذلك لم يكن ضرورياً أن ألتقيه لأعرفه فأهل الخير لا يُعرَفون بالمجالسة فقط بل بما يتركونه من نور وأثر في من حولهم وكل من تحدّث عن الشيخ أحمد كان يتحدث عنه وكأنّه يتحدث عن كنز من الطيبة والسكينة والتقوى الشيخ أحمد شمبال لم يكن شيخاً متفرغاً للمظاهر بل رجلًا من أهل الخشية العاملين في صمت الباذلين في سبيل الله دون منٍّ ولا رياء من وقف على تجربته في تعليم وتحفيظ القرآن يُدرك أن الرجل لم يكن يسعى لمكانة اجتماعية بل كان يحمل رسالة ويخدم دينًا ويُحافظ على ميراث الأنبياء وربما لهذا فإن رحيله فقدٌ للمجتمع كله لا لأسرته فقط فحين يموت السياسي يُغلق ملف وحين يموت التاجر يُغلق حساب لكن حين يموت شيخ قرآن… تُطفأ شمعة كانت تنير الطريق للناس إلى الله أهل كبم اليوم وكل دارفور بل والسودان فقدوا برحيله واحداً من الحكماء والعلماء والدعاة الربانيين ورغم الصمت الذي يغلف هذا الفقد فإن الوجدان العام يبكيه… تبكيه الخلاوي والألواح والسجدات الطويلة في جوف الليل ويبكيه كل قلبٍ عرف القرآن نعمة وعرف الشيخ أحمد حاملًا لتلك النعمة إننا اليوم لا نرثي شخصًا فقط بل نرثي قيمة عظيمة بدأت تنقرض في هذا الزمن المادي الملوث نرثي الرجل الذي ظلّ راسخًا في قلب الفوضى يزرع الإيمان وينحت من الطين نوراً يهتدي به الناس اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده

في الختام لا نقول إلا ما يُرضي الله (اللهم اغفر له وارحمه وأدخله الجنة بلا حساب واجعل قبره روضة من رياض الجنة وارفع درجته في عليين واحشره في زمرة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وارزق أهله الصبر والرضا وألحقنا به على خير غير مبدّلين ولا مفتونين) فقدك يا شيخنا ليس خفيفاً لكنه بإذن الله ليس خسارة لأن من علّم القرآن عاش حياة عظيمة ومات ميتة كريمة وسيرته ستظل نبراساً للأجيال