ضل الحراز
بقلم علي منصور حسب الله
في مشهدٍ لا يخلو من رمزية قاسية وإشارات سياسية بليغة اختار الأستاذ محمد هاشم الشهير بـ(بنكك) أحد قيادات حركة العدل والمساواة السودانية أن يُفرغ غضبه السياسي المكبوت في ذكرى توقيع اتفاق جوبا للسلام عبر تغريدة نارية فجّرت جدلًا واسعًا لما حملته من نقد لاذع وعتب مرير وسخط دفين ليس على الخصوم فحسب بل على الحلفاء بل وعلى الحركات المسلحة ذاتها كتب بنكك في تغريدته (اتفاق جوبا قُتل أكثر من مرة لعدم وجود الإرادة ولن يكن هناك شيء للذكرى غير وظائف الوزراء وحاشيتهم والحاكم ومن معه من المقرّبين وبعض أعضاء السيادي المنسيين وألف رحمة للشهداء… قوموا إلى نضالكم) وتابع (قضيتنا لن تموت بل تحيا بموت الكهول والانتهازيين) ليست هذه مجرد تغريدة عابرة كتبها غاضب لحظة انفعال بل كانت صفعة قوية على وجه الصمت السياسي المطبق وجرس إنذار مبكر يكشف عن صراع مكتوم وخلافات داخلية باتت تتصاعد في أروقة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا ولم يعد ممكنًا دفنها تحت الرماد وما كتبه بنكك لم يكن رأيًا شاذًا أو موقفًا معزولًا بل كان صدى صريحًا لما يُقال همسًا في الغرف المغلقة والمجالس الخاصة بل وفي صدور كثيرين من قواعد الحركات الذين باتوا يشعرون بأن المشروع الذي آمنوا به طيلة سنوات الكفاح تعرّض لتحوير خطير وتحول من مشروع وطني لإصلاح الدولة وتحقيق العدالة إلى صفقة لتقاسم السلطة والنفوذ بين عدد من القيادات والمجموعات الصغيرة فخلال السنوات الماضية انسحب عدد من القيادات البارزة من حركة العدل والمساواة في مشهد يلقي بظلال قاتمة على وحدة الحركة ومستقبلها ومن أبرز المنسحبين كان الدكتور سليمان صندل حقار الأمين السياسي ومسؤول الترتيبات الأمنية والأستاذ جبريل آدم بِلال نائب رئيس الحركة والاستاذ آدم عيسى حسابو أمين الحركة بإقليم كردفان والاستاذ أحمد تقد لسان أمين المفاوضات والاستاذ محمد حسين شرف نائب الأمين للشؤون الإدارية وآخرون…ورغم عودة بعض العسكريين إلى صفوف الحركة في وقت لاحق إلا أن تلك الانشقاقات كان يفترض أن تكون ناقوس خطر يستدعي وقفة مراجعة شجاعة من القيادة تحفظ وحدة الحركة وتستبق أي تفكك سياسي أو تنظيمي قادم
صحيح أن المنشقين اختاروا الطريق الخطأ عبر التحالف مع المليشيا التي تقتل الشعب السوداني وصاروا بيادق تحركها أيادي محمد حمدان دقلو إلا أن ذلك لا يعفي قيادة الحركة من مسؤولية خلق مناخ داخلي طارد دفع هؤلاء للخروج وهم يحملون غبن كبير إلا أنهم اختاروا طريقة شمسون الجبار الذي هد المعبد على رؤوس الجميع مترددا عبارته الشهيرة علي وعلى أعدائي ذلك الخروج نفسه يطرح أسئلة حقيقية حول غياب آليات الحوار والمساءلة والتصحيح الذاتي داخل الحركات ولم تكن حركة تحرير السودان بقيادة الفل مرشال مني أركو مناوي بمنأى عن هذه الظاهرة فقد تواجه هي الأخرى اهتزازات داخلية متوقعة برغم استقطابها لبعض المنشقين من حركة العدل والمساواة هذه الديناميكية تعكس بوضوح أن الأزمة ليست أزمة فصيل واحد بل هي أزمة بنيوية تضرب عمق الحركات المسلحة التي تحوّلت تدريجيًا من كيانات ثورية ذات طموحات وطنية كبرى إلى أجسام سياسية هشّة تتنازعها الصراعات الشخصية والمصالح الفئوية فعلى قادتها بأن يفهموا بأن سدرة المنتهى لدى مشروع الحركات ليست القتال في صف الحكومات لإعادة إنتاج تجربة مليشيا الدعم السريع التي بدأت بالقتال في صف الحكومة البائدة وانتهى بها الأمر في قتال الحكومة الحالية بل الدولة والشعب وحين وُقّع اتفاق جوبا في أكتوبر 2020 نظر إليه كثيرون كخطوة تاريخية لطي صفحة الحروب وبداية عهد جديد من العدالة والتنمية والتمثيل المتوازن لكن بعد مرور خمس سنوات بات السؤال المؤلم (هل كان اتفاق جوبا مشروع سلام حقيقي؟ أم أنه مشروع تحوّل إلى وسيلة لتوزيع المناصب؟) وسيلة يحظى بها المقربون بكل الامتيازات ويحرم الآخرين فالعديد من القيادات الثورية ومن بينهم بنكك يرون أن الاتفاق تم تفريغه من مضمونه الثوري وتحول إلى أداة لإعادة تدوير السلطة لا لتغييرها يقول بنكك بصراحة مؤلمة (الوظائف والوزارات هي كل ما تبقى للذكرى) إن تغريدة بنكك تكشف عن خلافات عميقة داخل الحركات المسلحة وربما بروز تيارات إصلاحية وتطرح تساؤلات جادة حول شرعية القيادات التاريخية التي يرى البعض أنها انفصلت تمامًا عن القواعد الثورية والشبابية وتحولت إلى بيوتات وأسر ولم تعد تمثلهم واتهامه الصريح لـ(الكهول والانتهازيين) بخيانة روح الثورة هو توصيف أخلاقي وسياسي خطير يعكس حجم الهوة بين القيادات التي اعتلت مناصب الدولة وبين الحالمين الذين ضحّوا بأعمارهم ودمائهم من أجل مشروع وطني كبير تم تقزيمه إلى كراسي وعربات ورواتب وزارية وغياب المشاريع وازدياد الجراح
خمسة أعوام بعد الاتفاق…لا مشاريع مكتملة ولا وطن مستقر
ولا عدالة للمناطق المهمشة ولا عودة طوعية للنازحين ولا مصالحة اجتماعية ولا حتى ترتيبات أمنية تضم قوات الحركات إلى القوات النظامية كل ما تبقى هو جراح مفتوحة وذكري شهداء ووجوه بائسة لمعوقين كانوا أبطال للنضال في صفوف الحركات وأسر فقدت عوائلها ولم يعد أحد يطبطب على الأيتام والأرامل الذين هم من دفع الثمن وأسئلة مؤجلة وهاوية تتسع بين من ناضلوا ومن استثمروا النضال سياسيًا واقتصاديًا وحين قال بنكك وبالمناسبة هو من المقربين لقيادة حركة العدل والمساواة إن البعض (انتهى به المطاف في القصر الجمهوري أو في صالات الانتظار على أبواب الجنرالات) فهو يعكس خيبة الأمل العميقة التي يشعر بها أبطال النضال السابقين ممن انتهى دوره بتوقيع الاتفاق وحين رأوا من حملوا مطالبهم يتحوّلون إلى أيادي تفرق بين أبناء الوطن بل بين فرسان النضال ورغم كل ذلك لا تزال هناك أصوات تؤمن أن الطريق لم يُغلق وأن ما نعيشه من انحرافات ليس إلا سحابة عابرة قد يعقبها ميلاد أصوات تنادي بالإصلاح من داخل كابينة قيادة هذه الحركات ويحمل الشعلة من جديد ويعيد للثورة صدقها وتغريدة بنكك التي نُشرت على صفحته الرسمية بموقع فيسبوك ليست مجرد كلمات إلكترونية بل هي رصاصة وعي انطلقت من قلب بورتسودان لتخترق جدار الصمت السياسي وتقول لكل من يعنيه الأمر (السلام لا يُوقّع بالحبر فقط بل يُبنى بالفعل والإرادة والصدق نعم بنكك لا يتحدث باسم الجميع لكنه عبّر بجرأة ووضوح عمّا يهمس به كثيرون وربما صار بنكك في الغد قائد إصلاحي وإن لم تبادر الحركات الثورية إلى مصارحة قواعدها ومراجعة تجربتها ومحاسبة قياداتها فإن القادم سيكون أخطر وقد يظهر عشرات مثل بنكك وربما حدثت في انشقاقات سياسية وأخلاقية وتاريخية ستقوّض ما تبقى من مشروعها الوطني وما نحتاجه اليوم ليس احتفالًا ولا استعراضًا بل وقفة ضمير نحتاج إلى أن نعترف بأن شعارات النضال تم اختطافها وأن روحها أُضعفت وأن سلامًا بلا عدالة هو سلام بلا روح (والثورة بلا مبادئ… ليست أكثر من صفقة موسمية)
وفي الختام
موراليون نحن حتى الممات والإصلاح قادم

