روضة نبع الحنان… دموع على تراب كلوقيعلي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضل الحراز

 

بقلم علي منصور حسب الله

لم تكن روضة نبع الحنان في كلوقي سوى مساحة صغيرة من الفرح… بقعة ضوءٍ كانت تزرع البهجة في وجوه أطفالٍ لم يعرفوا من هذا العالم إلا براءته الأولى كانت صباحاتهم تبدأ بضحكات صافية وأعين تلمع مثل ندى الفجر قبل أن يتحوّل هذا المكان الصغير الهادئ بين لحظةٍ وأخرى إلى ساحة صراخ ودماء وجثث متناثرة ورعب لا يحتمله قلب بشر وسط الدخان والغبار كانت تقف المعلمة مزدلفة أحمد تصرخ بهستيريا وهي تبحث بين الركام (طمنوني على أبنائي… وين أولادي؟!) لم تكن صرختها مجرد انفعال عابر…كانت صرخة أم قبل أن تكون صرخة معلمة صرخة جيلٍ كامل يعيش على حافة الفجيعة منذ سنوات بينما يواصل تجار الحروب ومنسوبو المليشيات العبث بأرواح الأبرياء وبحسب ما تداوله السكان ووسائل الإعلام المحلية في حصيلة أولية فقد سقط (62) طفلاً في قصف بالطائرات المسيّرة أطلقتها مليشيتي آل دقلو وعبد العزيز الحلو والمدعومة إماراتياً على روضةٍ نبع الحنان في كلوقي جنوب كردفان صباح الخميس 4 ديسمبر هل كان هؤلاء الصغار أهدافاً عسكرية؟
هل حملوا السلاح؟ هل شكّلوا (خطراً) على أحد؟
إنّ مجرد طرح هذه الأسئلة كفيل بفضح بشاعة المشهد غير أنها لا تمس سوى سطح المأساة فالوجع الأكبر ليس فقط في حجم الجريمة بل في أولئك الذين يسارعون لتبريرها أو تجميل قبحها أو تمريرها تحت لافتة (ضرورة الحرب) أو (خطأ غير مقصود) أو عبر القفز إلى السؤال الاستهبالي القديم من أطلق الرصاصة الأولى؟
يعلم الجميع أنّ مليشياتهم ومن ورائهم ساسة قحت أو تقدّم اوصمود هم من أشعل الحرب تنفيذاً لأوامر كفيلهم في (قصر الوطن) بأبوظبي هؤلاء أنفسهم الذين يهاجمون الجيش السوداني ليلاً ونهاراً بدعاوى (الإنسانية) و(حماية المدنيين) بينما يصمتون صمت القبور عندما تقتل المليشيات التي يدعمونها سياسياً وإعلامياً الأطفال في الرياض أو المصلين ركعاً في المساجد كما في مسجد الدرجة الأولى بالفاشر أو النساء اللواتي شُنِقن على جذوع الأشجار في اعتداءات موثقة يشيب لها الرأس كيف يستقيم أن تُرفع شعارات الإنسانية بيد بينما تُغطّى الجرائم باليد الأخرى؟ كيف نصدق خطاباً ينتقي ضحاياه ويصمت حين يكون القاتل (حليفاً)؟ الإنسانية لا تقبل التجزئة إما أن تكون مع الإنسان في كل مكان… أو ألّا تكون دماء أطفال روضة نبع الحنان ليست مجرد أرقام إنهم وجوه ودفاتر وأقلام وأحلام صغيرة لم تُكتب بعد كل قطرة دم منهم تقول بوضوح إن السودان يُذبح بين مطرقة مليشيات منفلتة وسندان صمت دولي وإقليمي مخزٍ بينما يتسابق بعض النخب والساسة وادعياء الإنسانية وبعض أصحاب الأقلام في تلميع القتلة ومنحهم شهادات البراءة.
كل جريمة تُرتكب اليوم ضد المدنيين تُكتب في سجلّ تجاوزات هذه المليشيات التي تستخدم أسوأ الأساليب من حصار وتجويع وتدمير مصادر مياه الشرب كما حدث في بابنوسة وهي وصمة عار على جبين من يبررها أو يصمت عنها أو يتلاعب بضحاياها في سجالات السياسة ما حدث في كلوقي ليس (اشتباكاً) ليس (حادثاً عرضياً) ليس (خطأً فنياً)
إنه قصف متعمد على روضة أطفال جريمة حرب مكتملة الأركان
وكل محاولة للتهرّب من الحقيقة هي مشاركة معنوية في الجريمة ذاتها ويبقى صوت المعلمة مزدلفة أحمد يجلجل في الذاكرة (طمنوني على أبنائي…) لكن الحقيقة المرة أنّ أحداً اليوم لا يستطيع طمأنة أم… ولا معلّمة… ولا وطن بأكمله
ما لم يتوقف استخدام الأطفال والمدنيين وقوداً من قبل المليشيات وما لم يُرفع صوت الحق عالياً في وجه القتلة مهما كان اسمهم أو موقعهم أو داعموهم ستظل الروضات والمستشفيات والمساجد تتحول إلى ساحات حرب… وسنظل نكتب عن دماء جديدة كل يوم