ضل الحراز: علي منصور حسب الله
تشهد منطقة أبيي في الأسابيع الأخيرة تصاعدًا خطيرًا في أعمال العنف، وسط صراع دموي محتدم بين مجموعات مسلحة من شباب دينكا نقوك والنوير من جهة، ورعاة المسيرية من جهة أخرى. هذا التدهور الأمني ينذر بانفجار شامل قد يمتد تأثيره لعدة عقود، ويهدد بنسف استقرار المنطقة برمتها.
الاعتداءات الأخيرة التي استهدفت رعاة المسيرية، تحديدًا من فرعي “أم حماد” و”أم إسماعين”، وأدت إلى مقتل وجرح 15 شابًا، ونهب نحو 1500 رأس من الأبقار في منطقة “الضبيب”، ليست إلا حلقة دامية جديدة في مسلسل طويل من العنف المتكرر، الذي بات يُمثل سمة ملازمة لحالة الانفلات الأمني في أبيي.
فقد شهد الأسبوع الأخير من أبريل ومطلع مايو الجاري ذروة في التصعيد، حيث بدأت الهجمات في 26 أبريل، وشملت عمليات نهب وسرقة استهدفت سوق أمييت، تم خلالها فقدان 25 دراجة نارية. كما تم العثور على جثتي شابين هما أقوانق أقوانق (25 عامًا) وأبوكور ميار (14 عامًا)، قُتلا بوحشية على الطريق الرابط بين دوكورة وسوق أمييت. ولم تقف المأساة عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل اعتداءً على مدنيين في قرية كولوم أثناء استخدامهم مضخة مياه، مما أدى إلى مقتل أحدهم على يد المسلحين أنفسهم.
وفي 4 مايو، دخلت مجموعة مسلحة إلى قرية نونق الواقعة شمال أبيي بنحو 10 كيلومترات، بحجة القيام بمساعٍ سلمية. غير أن تصرفاتهم الاستفزازية، المتمثلة في منع السكان من الوصول إلى مصدر المياه ، تسببت في اندلاع اشتباكات محدودة أصيب فيها أحد عناصر الميليشيا. وفي اليوم التالي، عند الساعة العاشرة صباحًا، شنت ذات المجموعة هجومًا عنيفًا على قرية نونق، أسفر عن إصابة ستة أشخاص بجروح خطيرة، بالتزامن مع هجوم آخر على منطقة كول-بول غرب أبيي، راح ضحيته شابان هما: ألور أنيل أقون وألور ميان دينق، وكلاهما في العشرينات من عمره.
هذه التطورات المأساوية ليست معزولة، بل نتاج لتراكمات عدائية ممتدة، فمنذ تسليح المسيرية وتجنيدهم فيما عرف بالمراحيل عام ١٩٨٦م التي ارتبطت بابشع الجرائم وهي المليشيات التي تغذت الدماء والانتهاكات مرارا
فشلت الحكومات المتعاقبة في معالجة جذور الأزمة، والمتمثلة في صراع الهوية والسيادة وحق تقرير المصير لمنطقة أبيي.
ومع ذلك، فإن الخطأ الأكبر يُرتكب حاليًا من قِبل عدد من نظار ومشايخ المسيرية المعزولين بقرارات حكومية ، وعلى رأسهم:
من المسيرية الحُمر الفلايتة: عبد المنعم موسى الشوين (ناظر )، حامد محمد حامد البودة (وكيل النظارة)، بشير عجيل جودة الله (مقرر النظارة)، خريف رحمة أحمد (عمدة أولاد سرور)، أحمد عزاز نور الضاوي (عمدة الزيود)، محمد يوسف بحر (عمدة السلامات)، حمدان جار النبي (عمدة المتانين)، والحاج عبيد تم حامد (وكيل عمدة الجبارات).
من المسيرية الحُمر العجايرة:
مختار بأبو نمر (ناظر)، إسماعيل حامدين حميدان (وكيل النظارة)، الدود محمد العبيد (عمدة أولاد كامل دار موته)، حامد عثمان محمد (عمدة المزاغنة عارية جمال الدين)، صديق شنباية الشيخ (عمدة أولاد كامل الكلايته غشيم)، الصديق حميدان عبد الجليل الصافي (عمدة أولاد كامل دار سالم)، وحماد خاطر جمعة (عمدة أولاد عمران أم تمدية).
ومن المسيرية الزُرق:
الصادق الحريكة عزالدين حميدة (ناظر)، محمد حمدية البشر (وكيل الناظر)، موسى أحمد شايب (مقرر النظارة)، بالإضافة إلى العمد: عثمان الفضل مصطفى (عمدة أولاد هيبان)، عمر شرفي حماد (عمدة العنينات)، وأحمد الطيب هارون (عمدة أولاد أم سليم).
لقد وضع هؤلاء الزعماء مستقبل قبيلتهم في يد ميليشيا الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، دون إدراك لحجم التهديد الذي يُمثله هذا التحالف على المسيرية ومصالحهم في أبيي.
من جانب آخر، يتضح أن تسليح شباب دينكا نقوك والنوير، بدعم من قيادات في الحركة الشعبية وبعض أبناء أبيي النافذين في جنوب السودان، تحت ستار القتال في صفوف مليشيا الدعم السريع لم يكن محض مصادفة، بل جزء من مشروع استراتيجي يهدف إلى فرض واقع ميداني يدعم ضم أبيي إلى الجنوب، في ظل انشغال الدولة السودانية بصراعاتها الداخلية وانسحابها الفعلي من إدارة الملف.
وقد وقعت الإدارة الأهلية للمسيرية في خطأ جسيم حين تحالفت مع مليشيا الدعم السريع، ودفعت بشبابها إلى معارك خاسرة، خدمت أجندات انفصالية لا علاقة لها بمصالح المسيرية. هذا التحالف جعلهم في نظر الدولة خصومًا بدلًا من أن يكونوا شركاء، واستنزف قدراتهم في صراعات هامشية بدلًا من التفاوض السياسي والتنسيق الدولي والحفاظ على قوتهم.
في المقابل، يواصل رئيس إدارية أبيي، السفير شول دينق ألاك، الدفع نحو تدويل قضية أبيي، مستندًا إلى نتائج استفتاء أكتوبر 2013، الذي قاطعته قبيلة المسيرية، وأسفر عن تصويت 99.98% من المشاركين لصالح الانضمام إلى دولة جنوب السودان. وتسعى حكومة الجنوب، خطب دعم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، إلى ترسيخ هذه النتيجة واكتساب الشرعية الإقليمية والدولية.
ويُعد الصمت الرسمي من الحكومة السودانية، والانقسام داخل صفوف المسيرية، وعدم وجود رؤية موحدة، من أبرز الأسباب التي فتحت الباب أمام هذه التحركات.
ويُشار أيضًا إلى اعتذار حميدتي الأخير لشعب جنوب السودان عن المجازر السابقة، والذي فُهم على نطاق واسع كخطوة سياسية تهدف إلى استمالة جوبا، حتى وإن كان ذلك على حساب قضايا حدودية حساسة مثل أبيي.
وعلى الصعيد الخفي من هذا المشهد، فقد لعب كل من فرانسيس دينق ودينق ألور دورًا محوريًا في تنسيق جهود دينكا نقوك مع ميليشيا الدعم السريع، وهي الخطوة التي مهدت لتسليح شباب الدينكا نقوك بأسلحة قدمتها الإمارات. وكان الهدف، بحسب مراقبين، تنفيذ أجندة ياسر عرمان، صهر قبيلة دينكا نقوك، والذي يسعى إلى مشروع “السودان الجديد” الذي تبناه الراحل د. جون قرنق. وقد استغل عرمان هذه التحالفات لتعويض خسارته العسكرية بعد إبعاده من جبال النوبة والحركة الشعبية.
وفي خطوة أحادية مخالفة للقوانين الدولية، وجّه د. رياك مشار، نائب رئيس دولة جنوب السودان، المجلسين التنفيذي والتشريعي لإدارية أبيي التي عيّنتها جوبا، لإجازة نتائج الاستفتاء الأحادي لعام 2013، والذي سبق أن رفضه السودان والمجتمع الدولي. هذا القرار جاء عقب اجتماعات ضمت مشار، وشول دينق ألاك ، ودينق ألور، وفرانسيس دينق، تمهيدًا لرفعه إلى مجلس وزراء حكومة الجنوب للمصادقة عليه.
كما التقى مشار باللواء روبرت أفرام، القائد المؤقت لقوات “اليونسفا”، وطالبه بنشر شرطة جنوبية في أبيي بحجة التعامل مع اللاجئين، في تحدٍ صارخ لقرار مجلس الأمن رقم 2760 الصادر في 24 نوفمبر 2024، والذي يمنع أي قرارات أحادية بشأن أبيي.
إن كل هذه المؤشرات تدق ناقوس الخطر، وتضع المسيرية أمام مفترق طرق. فإما أن يتحركوا لحماية أراضيهم وحقوقهم التاريخية، أو أن يستسلموا لمصير تُرسم ملامحه في دهاليز السياسة الدولية.
ويُعد تحالف الناظر مختار بابو نمر مع حميدتي أحد العوامل التي زادت من تعقيد الوضع، وساهمت -بشكل غير مباشر- في دفع الأمور إلى هذا المنحدر الخطير. وعلى عقلاء المسيرية أن يبادروا فورًا بتنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر قوات “اليونسفا”، والتواصل مع المجتمع الدولي، للدفاع عن حقوقهم في أبيي.
إذا لم يتم تبني رؤية موحدة وحكيمة، تستعيد العلاقة مع الدولة، وتوقف نزيف الدم، فإن أبيي قد تُفقد إلى الأبد. وسيُسجل التاريخ أن قبيلة عريقة دفعت بأبنائها للقتال من أجل وهم، وخسرت الأرض مرتين: مرة برصاص الخصوم، ومرة بسوء الحسابات.