ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في بلدٍ تتناسل فيه الأزمات من رحم الحرب، وتُطحن فيه الأسر تحت وطأة النزوح والجوع والخوف، كنا نعتقد أن ما تبقّى لنا من إنسانية يُختبَر في مواقف العون والتكافل، لا في لحظات الجحود. لكن ما يجري هذه الأيام في ولاية البحر الأحمر يطرح أسئلة مؤلمة حول الضمير العام، والمسؤولية السياسية، والأخلاق الإدارية، بعد أن تحوّلت الولاية من ملاذٍ آمنٍ للنازحين إلى سلطة تمارس عليهم الضغط والإبعاد بذريعة “إخلاء المدارس”.
في مشهدٍ لا يليق بدولة تمر بأسوأ كارثة إنسانية في تاريخها الحديث، قامت قوات النظام العام بقيادة ضابطة وبشكلٍ صادم، بتوزيع إنذارات للنازحين في مدرسة عقبة بن نافع بحي ديم النور مربع (6)، حيث كانت تأوي عددًا من الأسر الهاربة من جحيم الحرب في الخرطوم والجزيرة والفاشر ومدن أخرى. وليس هذا الحادث استثناءً، بل هو امتدادٌ لحملة بدأتها حكومة الولاية لإجبار النازحين على ترك المدارس والانتقال إلى مراكز بديلة، في توقيت غريب، وسط أيامٍ مباركة، وقبيل عودة التلاميذ للدراسة.
أنذرت سلطات الولاية النازحين بالانتقال من هذه المدرسة إلى مدارس أخرى في ظرف (48) ساعة، رغم أن المدارس لا تزال في عطلة تمتد لثلاثة أشهر. والغريب أن النازحين لم يشغلوا فصول المدرسة أو مكاتب المعلمين، بل استقروا فقط في فناء المدرسة وميدانها.
هل استغلوا أيًا من مرافق المدرسة الأساسية؟
هل خرّبوا الممتلكات؟
هل استهدفوا المجتمع المحلي؟
هل أثاروا الفوضى أو زرعوا الفتن كما يلمّح البعض؟
الحقيقة التي يعرفها الجميع أن هؤلاء لم يطلبوا شيئًا سوى الأمان والمأوى. فهل يُعقل أن يُجازى ذلك بالسوط والعزل؟ الأدهى أن وزيرة الرعاية الاجتماعية، بدلاً من توزيع الإعانات على هؤلاء النازحين الذين استجاروا بولايتها، أصبحت توقّع على إنذارات الإخلاء! أما الشرطة، التي يُفترض أن تكون في خدمة الشعب، فقد تحوّلت إلى أداة لتنفيذ أوامر الوالي والوزيرة، وتصرّ على تنفيذ الإخلاء.
ما يجري هو عقوبة جماعية تُمارَس على فئة هشّة لا تملك من الدنيا شيئًا سوى البطانيات التي تفترش بها الأرض. وهو أيضًا انحراف خطير في أداء حكومة يُفترض أن تكون جزءًا من الحل الإنساني، لا شريكًا في معاناة المواطنين.
يتذرّع مسؤولو الولاية بأن الهدف من الإخلاء هو “الاستعداد للعام الدراسي الجديد”، رغم أن الطلاب ما زالوا في عطلتهم، ولم تُعلن أي خطة واضحة لعودة الدراسة. وحتى لو افترضنا جدلاً أن هذه الخطوة مبرّرة إداريًا، فهل هذا هو الأسلوب السليم لتنفيذها؟ دون بدائل مناسبة؟ دون مهلة إنسانية كافية؟ دون الحد الأدنى من الكرامة في التعامل مع الضحايا؟
النازحون ليسوا قطع أثاث تُنقل من زاوية لأخرى. إنهم بشر فقدوا منازلهم وأعمالهم وأحباءهم. يكفيهم أنهم فرّوا من الموت. إخلاؤهم بالقوة أو بالضغط النفسي أو بتلميحات التخوين، هو ببساطة تكرار لمأساة النزوح، لكن بأيدٍ داخلية هذه المرة.
رسالتنا لحكومة الولاية:
أن تكونوا حكومة لا يعني أن تفقدوا الرحمة.
ليس مطلوبًا منكم المعجزات، بل قليلٌ من الاحترام لكرامة الإنسان، وقليلٌ من التخطيط، وقليلٌ من الإحساس بأن هؤلاء ليسوا عبئًا على المدينة، بل هم أهلٌ لها. فثغر السودان لا يضيق بأهله، ولا يضيق بمن لجأ إليه هاربًا من جحيم الخراب.
السياسات العشوائية لا تبني استقرارًا، والتعسّف في القرارات لا يرسّخ هيبة الدولة، بل يكشف خواءها. وإن كان لا بد من إخلاء المدارس، فلتكن هناك خطة متكاملة، تبدأ بتأهيل مراكز بديلة، وتنتهي باحترام إنسانية من تُجبرونهم على الرحيل.
في الختام…هذه البلاد لن تتعافى من جراحها إذا بدأت تطرد الضحية، وإذا تحوّلت مؤسسات الدولة إلى أدوات طرد بدلًا من أن تكون مظلة حماية.
النازحون هم اختبار يومي لضمير هذه البلاد، وليسوا عارًا يُخبّأ في أطراف المدينة.
فلا تطردوهم من مدارسهم كما طُردوا من منازلهم.