ضل الحراز: علي منصور حسب الله
تقع واحة العطرون في قلب الصحراء، شمال شرق جبال الميدوب، وتجاورها من الناحية الشمالية الغربية واحة النخيل وكرب التوم، ومن الغرب هضبة الراهب، ومن الشرق دنقلا والدبة. تُعرف هذه المنطقة بانخفاضاتها التي تتكون من الصخور الملحية، مما يمنحها أهمية اقتصادية كبيرة نظرًا لاحتوائها على مادة “بيكربونات الصوديوم” (العطرون) واحتياطيات مهمة من النفط.
لم يكن الجدل حول تبعية العطرون وكرب التوم للولاية الشمالية أو دارفور وليد اللحظة، بل يمتد لسنوات طويلة. إذ ترى الحركات الدارفورية أن النظام السابق اقتطع محطات جمركية مثل كرب التوم والعطرون بقرارات رئاسية وضمهما إلى الولاية الشمالية، وهو ما أثار موجة من الاعتراضات منذ مفاوضات أبوجا عام 2005.
وفي عام 2009، أصدرت رابطة أبناء الميدوب بالمهجر بيانات أكدت فيها أن حدود دار الميدوب تمتد غربًا من جبل عيسى، وشمالًا إلى العطرون وكرب التوم، وشرقًا حتى حدود شمال كردفان. ويؤكد مؤيدو هذا الرأي أن كرب التوم كانت ميناءً يستخدمه سكان دارفور في رحلاتهم التجارية إلى مصر منذ عهد المماليك، وكانت مصدرًا ماليًا مهمًا لحكومة دارفور. إلا أن القرار الذي صدر في عهد حكومة الإنقاذ أدى إلى حرمان دارفور من منفذ بري لصالح الولاية الشمالية.
مع تجدد المطالب بشأن ترسيم الحدود خلال مفاوضات الدوحة، تم تشكيل لجنة لترسيم الحدود بين شمال دارفور والولاية الشمالية، وقد أنهت أعمالها بتقديم تقريرها النهائي للدكتور التجاني سيسي، رئيس السلطة الإقليمية لدارفور آنذاك. وأكد رئيس اللجنة الفنية لترسيم الحدود، عوض سعيد، أن اللجنة استندت إلى وثائق تعود لعام 1952 صادرة من الحاكم العام، وحددت 64 علامة حدودية باستخدام أحدث التقنيات.
أثار الشعار الذي ظهر في خلفية منصة خطاب حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، جدلًا واسعًا، حيث احتوى على خريطة تحدد حدود الإقليم قبل مصادقة الدولة عليها. وكان الأجدر بمكتب مناوي مخاطبة مفوضية الحدود للحصول على الحدود المعتمدة رسميًا، تفاديًا لأي جدل سياسي، خاصة أن الحركة طرحت قضية الحدود ضمن بنود اتفاق جوبا ولم تصدر قرارات بشأنها بعد. فلماذا سارع مكتب مناوي لإبراز الحدود وفق رؤية الحركة في هذا التوقيت؟ ألم يكن من الأفضل تصميم شعار إبداعي يعكس رموزًا تراثية واقتصادية للإقليم، مثل البرتال والريكة؟
كما يبرز التساؤل حول توقيت إثارة القضية الآن، رغم أنها مدرجة في اتفاقيات أبوجا والدوحة وجوبا. من اللافت أن بعض وسائل الإعلام تعاملت مع القضية من منطلقات بعيدة عن جوهر الموضوع، متجاهلة السياق التاريخي والاتفاقيات السابقة، في محاولة لتصوير مناوي كالمتسبب الرئيسي في الأزمة. بل ذهب البعض إلى وصفه بحميدتي الجديد، وأشار آخرون إلى أن مناوي، عقب فشله في تحقيق طموحاته، لجأ إلى الابتزاز. كل هذا في موضوع كانت بداياته قديمة، وقتها كان معظم الصحفيين والإعلاميين الذين صاروا يحاربون حميدتي يسبحون بحمده آناء الليل وأطراف النهار، وكانوا الأكثر استفادة من حميدتي وجماعته.
لكن هل من مصلحة السودان التركيز على تصيد الأخطاء بدلاً من البحث عن حلول توافقية؟ وهل هذا الهجوم الإعلامي والتخوين الموجه لمناوي يأتي بدوافع وطنية أم لتصفية حسابات سياسية؟
قضية العطرون وكرب التوم ليست مجرد نزاع حدودي، بل تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية والتاريخية والسياسية. وبدلاً من إذكاء الصراعات، ينبغي التعامل مع الملف بموضوعية، واعتماد معايير قانونية واضحة لتسوية النزاع بما يخدم استقرار السودان ووحدته. ولم يكن مناوي أول من طرح الأمر، ولن يكون الأخير، لذلك فإن تناول القضية بهذه الطريقة يحمل في طياته تضليلًا متعمدًا بغرض شيطنة مناوي، وهو ما يساهم فيه مكتبه بطريقة غير مفهومة. مناوي يمكنه أن يطرح نفسه كرجل قومي بدلاً من التقوقع حول دارفور، نعم هو حاكم الإقليم، لكن يمكنه أن يديره برؤية قومية تعزز وحدة السودان. فالعقلية التمردية لم تعد تجدي في ظل الوضع الحالي، ومتى يدرك أنه ابن السودان الذي قاتل من أجل شعبه في كافة الأقاليم؟
ويبقى السؤال الأهم: هذه الخريطة كشعار موجودة منذ أكثر من أربعة أعوام، بكامل تفاصيلها الحالية، وظلت بارزة كلوحة في مكتب مناوي منذ توليه منصب حاكم الإقليم، واستخدمت كخلفية في الاجتماعات وكذلك في المكاتبات الرسمية، فلماذا يتم إثارة القضية في هذا التوقيت تحديدًا؟
على قادة الدولة الانتباه لما يجري من محاولات زرع الفتن في البلاد. وعلى السيد مناوي ومكتبه التركيز أكثر، إذ إنهم هم من يمررون لخصومهم فرصًا ثمينة للنيل منهم.
أما السادة الإعلاميون والناشطون، فإن قضايا الحدود مطروحة منذ زمن بعيد، وحلها يتم عبر أجهزة الدولة، التي إن ضمت المزيد من الأراضي لأي من الولايات، ستجد التأييد الشعبي.