عندما تتحول قرارات الحرب إلى عبودية جماعية باسم “الاستنفار”

ضل الحراز:  علي منصور حسب الله

 

 

في مشهد يكشف عمق المأساة التي يعيشها السودان، أصدر رئيس ما يُسمى بالإدارة المدنية بولاية جنوب دارفور، يوسف إدريس يوسف، ما وصفه بـ”أمر طوارئ خاص بالتعبئة والاستنفار”، معلنًا بذلك إدخال الولاية وكل سكانها في حالة حرب قسرية، بقوة التهديد والعقوبة.

 

 

هذا القرار، الذي زُجّ به إلى العلن بزعم حماية الأمن والاستقرار، هو في جوهره وثيقة إذعان جماعي يُراد فرضها على مواطنين فقدوا أمنهم وحقوقهم وكرامتهم، ليُطلب منهم الآن القتال نيابة عن مليشيا فقدت مشروعيتها وسلطتها وارتكنت على المرتزقة والنهب كسند وجودها.

 

 

أول ما يُلفت الانتباه في هذا القرار هو غياب أي أساس دستوري أو قانوني له. فالجسم المسمى “الإدارة المدنية” لا يحمل أي صفة شرعية، وهو مجرد غطاء سياسي لمليشيا انفصالية خارجة عن القانون. إعلان الطوارئ والتعبئة من سلطة غير دستورية يُعد تعديًا صريحًا على مؤسسات الدولة، وسابقة خطيرة تنسف مبدأ سيادة القانون وتفتح الباب للفوضى والتسلط.

 

 

والأخطر من ذلك، أن القرار يُجبر المواطنين على القتال بالإكراه، مُلوّحًا بالسجن والغرامة والعقوبات المركبة لمن يرفض أو يعارض أو يمتنع. وهذا يخالف أبسط قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان، ويقع ضمن دائرة التجنيد القسري المحظور قانونيًا، ويُصنف ضمن جرائم الحرب إذا تم تنفيذه على المدنيين.

 

 

من الناحية الأخلاقية والوطنية، فإن فرض الاستنفار الإجباري في صفوف المواطنين الذين اكتووا بنار الحرب، يمثل انحدارًا غير مسبوق في القيم السياسية والوطنية. المليشيا التي دمرت المدن، وقتلت الأطفال، واغتصبت النساء، ونهبت الأسواق والمنازل، لا تملك أي حق أخلاقي في أن تطلب من الشعب الدفاع عنها أو القتال إلى جانبها.

 

 

هذا القرار لا يُعبّر عن رغبة في حماية المواطنين، بل عن محاولة يائسة لتغطية الانهيار الميداني للمليشيا، التي فقدت سيطرتها على الأرض، بعد اقتراب متحرك الجيش السوداني “الشهيد الصياد” من مناطق نفوذها.

 

 

وفي مقابل فشلها في تعبئة الشعب، لجأت المليشيا إلى استجلاب المرتزقة من تشاد، وإفريقيا الوسطى، وكينيا، وجنوب السودان، وحتى كولومبيا، بتمويل مباشر من الإمارات العربية المتحدة، وفقًا لمصادر موثوقة وتقارير دولية، مما يؤكد أن هذه الحرب لم تعد حرب سودانيين، بل معركة بالوكالة تُدار من الخارج على حساب دماء الأبرياء.

 

 

وفي ظل هذا الاحتلال المقنّع، تحوّلت أسواق مثل سوق دقلو في الضعين ونيالا والجنينة، وحتى داخل تشاد والنيجر وإفريقيا الوسطى إلى مراكز لبيع المنهوبات من منازل المواطنين السودانيين، بما في ذلك السيارات، الأجهزة الكهربائية، وحتى الأثاث الشخصي، تُعرض هناك بأبخس الأثمان، في مشهد يُجسد نهب ثروات الشعب وتحويل الوطن إلى غنيمة حرب.

 

 

ختاما الشعب السوداني اليوم ليس مطالبًا بأن ينجر إلى معركة خاسرة لحماية مليشيا فقدت شرعيتها، بل هو مطالب بالاستنفار الحقيقي: استنفار وطني ضد مشروع تفكيك الدولة، وضد الاحتلال المقنع بالمرتزقة، وضد أنظمة لا ترى في الإنسان السوداني سوى أداة للحرب، لا شريكًا في الوطن.

 

إن هذا القرار يُعد جريمة سياسية وأخلاقية وقانونية في حق السودانيين، وسيُسجل في ذاكرة الوطن كوصمة عار، تمامًا كما سُجلت جرائم سابقة في صفحات العدالة القادمة، لا محالة.