ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في واحدة من أغرب وأشد التناقضات في المشهد السوداني المعقد، تقدم مليشيا الدعم السريع نموذجًا صارخًا للتلون السياسي والانتهازية الأيديولوجية، حيث تجمع بين شعارات علمانية صاخبة، وتحركات ذات طابع ديني فج، بما يعكس حالة من التخبط وغياب المشروع الواضح، بل والإفلاس الأخلاقي والسياسي.
ففي الوقت الذي تعلن فيه هذه المليشيا أنها ترفض خلط الدين بالسياسة، وتدين استغلال النصوص الدينية في الخطاب السياسي، بل وتتهم خصومها من جماعة الإخوان المسلمين بأنهم تجار دين، نجدها تسعى – وبوقاحة بالغة – لتوظيف الدين بصورة انتقائية وانتهازية.
لقد تحالفت مليشيا الدعم السريع مع الحركة الشعبية – شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، أحد أبرز دعاة العلمانية في السودان وأكثرهم تشددًا في رفض أي دور للدين في الدولة. ومع ذلك، لم تتورع المليشيا نفسها عن تنظيم لقاءات مع أئمة ودعاة في مدينة نيالا، طالبة منهم إصدار فتاوى تُحرِّم القتال ضد مليشياتهم، بل وتُجرِّم الإدلاء بأي معلومة تُلحق الأذى بهم، متناسية أن مواقف كهذه تفتقر إلى أي أساس ديني أو أخلاقي.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل جمعت المليشيا ذاتها مرة أخرى رجال الدين في صالة حمدو الشهيرة بنيالا، وطلبت منهم إصدار فتاوى تؤصِّل فكريًا وشرعيًا لما تسميه بـ”الجهاد في صفوف مليشيا الدعم السريع”، في مسعى مكشوف لتغليف حربها على الشعب والجيش بلبوس ديني مزيف.
أي مفارقة هذه؟ وأي جهل أو استغباء للعقول هذا الذي تمارسه مليشيا تحاول ارتداء عباءة الجهاد، وهي ذاتها من تنتهك كل القيم الدينية والإنسانية في سلوكها الميداني، من قتل المدنيين، إلى نهب الممتلكات، إلى تجنيد الأطفال وارتكاب الفظائع بحق الأبرياء!
بل المضحك المبكي أن هذه المليشيا نفسها تسعى لكسب ود عبد الواحد محمد نور، أحد أكثر قادة الحركات المسلحة تشددًا في علمانية الدولة ورفضًا لأي طرح ديني، مما يعكس حجم التناقضات التي تعيشها قيادة مليشيا الدعم السريع، وهي تتخبط بين المحاور الإقليمية والمصالح الشخصية، دون بوصلة أو مبدأ.
أما الأطراف الإقليمية، كالإمارات التي تعلن عداءها لجماعة الإخوان المسلمين وتدّعي دعمها للعلمانية والانفتاح، فإنها تجد نفسها عمليًا في صف مليشيا تُمارس ذات الأساليب التي تتهم بها الإخوان: توظيف الدين لخدمة مشروع سلطوي مغلق، قائم على العنف والتسلط وليس على أي قيم ديمقراطية أو مدنية.
لقد تناست هذه المليشيا – ومن يدعمها – أن الجهاد في الإسلام ليس مبررًا للفوضى والقتل، بل هو مفهوم أخلاقي عميق، تضبطه نصوص شرعية واضحة، وسلوكيات راقية حتى في أصعب ظروف القتال. فالجهاد لا يكون إلا دفاعًا عن الحق، لا عدوانًا على الأبرياء. ولا يكون إلا بسلطة شرعية، لا بميليشيا خارجة عن القانون والشرعية.
اليوم، ومع تقدم القوات المسلحة السودانية والقوات المساندة نحو ولايات دارفور لتحريرها من سطوة هذه المليشيات، تزداد وتيرة الارتباك في خطاب مليشيا الدعم السريع. فمن التهديد بالعنف إلى محاولة تغليف مشروعها بفتاوى مزورة، تثبت المليشيا يومًا بعد يوم أنها ليست سوى جماعة خارجة عن الوطنية، لا تختلف – لا في الفكر ولا في السلوك – عن كل جماعات التطرف ، مهما غيرت في اليافطة والشعار.
إن الشعب السوداني، الذي خاض ثورات عظيمة ضد الديكتاتوريات والتسلط، لن تنطلي عليه هذه الخدع. والتاريخ لن يرحم من تاجر بالدين، ولا من استباح أرواح الأبرياء باسم الله زورًا، كما لن يرحم من دعموهم ومكّنوا لهم ووفّروا لهم الغطاء السياسي والمالي.
آن الأوان لقول الحقيقة: مليشيا الدعم السريع ليس إلا مشروعًا طفيليًا، يعيش على التناقضات، ويقتات على معاناة الأبرياء، وينتمي إلى ذات مدرسة الإخوان المسلمين التي يدّعي معاداتها، لا فرق إلا في الشعار.