في سياق التعديلات المقترحة على قانون الصحافة والمطبوعات لعام 2009م (2)

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

في إطار جهود وزارة الثقافة والإعلام لتحديث التشريعات الإعلامية، أقيمت مؤخرًا ورشة نقاشية خُصصت لبحث سبل تعديل قانون الصحافة والمطبوعات لعام 2009م، وهو القانون الذي ظل محل جدل متواصل بين العاملين في الحقل الإعلامي من جهة، وصنّاع القرار من جهة أخرى. ويعود هذا الجدل إلى الطبيعة المركزية التي طغت على صياغة القوانين الصحفية في السودان، والتي غالبًا ما كانت تُفصَّل وفق مقاسات المركز، لا من حيث البنية المؤسسية فقط، بل أيضًا من حيث المرجعيات الفكرية والرؤية الإعلامية.

فمنذ صدور أول قانون للصحافة في عام 1930م وحتى آخر نسخة في عام 2009م، كرّست هذه القوانين لمنظومة إعلامية مركزية، همّشت الأقاليم وأقصت التنوع الجغرافي والثقافي الثري الذي يزخر به السودان. ولم تتضمن هذه القوانين، على مدار تاريخها، أي نص صريح يعترف بالصحافة الإقليمية أو يدعم وجودها، رغم ما قدمته هذه الصحافة من إسهام بارز في تشكيل الوعي الوطني وتنوير المجتمع.

ولعل تجربة صحيفة “كردفان” الإقليمية الرائدة تمثل نموذجًا حيًا على الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه الصحافة المحلية في إحداث التغيير وترسيخ الوعي العام. فقد أسس هذه الصحيفة الدكتور الفاتح النور، أحد أبرز أعلام الصحافة السودانية، الذي لم يكن مجرد ناشر بل كان مفكرًا وطنيًا ومبادرًا أصيلًا. كان من أوائل المنادين بالحكم الإقليمي، كما كان صاحب فكرة “عيد الشجرة” التي سعت إلى ترسيخ الاهتمام بالبيئة في الوعي السوداني.

اعتمدت صحيفة كردفان شعارًا ذا دلالة عميقة يعكس رؤيتها التنويرية:

«الإصلاح من قاعدة الهرم إلى قمته».

وقد صدر التصديق بإصدارها في عام 1945م من السكرتير الإداري البريطاني السير دوجلاس نيويولد، وبموافقة مدير مديرية كردفان آنذاك، الأسكتلندي مستر أوين كامبل. وعلى مدار 25 عامًا من العمل الصحفي المستقل، وحتى توقفها في عام 1970م، حققت الصحيفة العديد من الإنجازات اللافتة، نذكر منها:

الدعوة إلى الحكم الإقليمي: في عددها رقم (464) بتاريخ 13 يناير 1956م، نشرت الصحيفة مقالًا بعنوان “نحو ولايات سودانية أربع”، يُعد من أوائل الطروحات الفكرية الموثقة التي دعت لتبني الحكم الإقليمي. وقد تجسّد هذا الطرح عمليًا بإصدار قانون الحكم الإقليمي في عهد الرئيس جعفر نميري عام 1980م.

مناصرة قضايا مزارعي جبال النوبة: منذ عام 1946م، دافعت الصحيفة عن حقوق المزارعين من خلال سلسلة مقالات بعنوان “مزارع جبال النوبة المغبون”، بلغت خمسة عشر مقالًا. وقد لاقت هذه الحملة صدى واسعًا حتى في الإعلام المصري، حيث تناولتها الصحفية عصمت عبد الجواد في برنامج “ركن السودان” بالإذاعة المصرية، ما ساعد في تأسيس اتحاد مزارعي جبال النوبة عام 1952م، كأول اتحاد زراعي في غرب السودان.

الدعوة لإنشاء متحف شيكان: في مقال بتاريخ 2 نوفمبر 1962م، دعت الصحيفة إلى إنشاء متحف يوثق معركة شيكان. وقد صدر قرار بتشكيل لجنة عليا لإنشاء المتحف برئاسة الفاتح النور نفسه، تخليدًا لبطولات تلك المعركة.

إطلاق فكرة “عيد الشجرة”: في مقال نُشر بتاريخ 5 يونيو 1963م، طرحت الصحيفة فكرة تخصيص يوم سنوي لغرس الأشجار والتوعية البيئية. تُوِّج هذا المقترح بصدور القرار الجمهوري رقم 268 لسنة 1992م عن الرئيس عمر البشير، باعتبار عيد الشجرة مناسبة قومية. كما أصدر وزير التربية والتعليم آنذاك، الأستاذ عبد الباسط سبدرات، توجيهًا بجعل الخامس من أكتوبر من كل عام يومًا مدرسياً لغرس الأشجار وتناول فوائدها في الحصة الأولى.

المطالبة بإنشاء جامعة كردفان: في مقال بتاريخ 7 مارس 1962م بعنوان “كردفان أحق بالجامعة الثانية”، دعت الصحيفة إلى إنشاء جامعة في الإقليم. وقد تحققت هذه الرؤية في مارس 1990م بإعلان الرئيس عمر البشير عن إنشاء جامعة كردفان، التي أصبحت واحدة من أبرز الجامعات السودانية.

وقد امتدت روح المبادرة هذه لتشمل إصدار أعداد خاصة تناولت قضايا قومية حساسة، نذكر منها:

عدد خاص عن دارفور (31 مايو 1948م) في 60 صفحة.

عدد خاص عن جنوب السودان (20 فبراير 1952م) في 60 صفحة أيضًا، وقد كان له وقع كبير في الأوساط الفكرية والإعلامية، نظرًا لقلة المعلومات المتداولة آنذاك عن الجنوب. تلقى الفاتح النور رسائل تهنئة من السيد علي الميرغني، والسيد الصديق المهدي، إضافة إلى إشادات من صحف ومجلات عربية كـ”الطليعة السودانية”، و”السودان الجديد”، و”الصراحة”، ورسالة من الأستاذ حافظ محمود، نائب نقيب الصحفيين المصريين ورئيس تحرير جريدة القاهرة.

عدد خاص عن جبال النوبة (29 أبريل 1955م) سلط الضوء على منطقة كانت تعاني من تجاهل مماثل لما كان يحدث في الجنوب.

عدد “السودان والعالم العربي” (4 نوفمبر 1956م) احتفاءً بالاستقلال، حظي باهتمام واسع في الأوساط الإعلامية العربية، ووصفه الكاتب المصري محمد زكي عبد القادر بـ”الإنجاز الصحفي”، مانحًا الفاتح النور لقب “رائد الصحافة الإقليمية”.

عدد خاص بمحاربة العطش (مايو 1970م، العدد 850) صدر تحت شعار “حملة التحرر من العطش تغيير وجه الحياة في غرب السودان”، في ثلاثين صفحة من القطع الكبير، وساهمت الصحيفة بعائداته في دعم الحملة.

كما أصدرت الصحيفة بين عامي 1955م و1969م سبعة أعداد خاصة متنوعة، عكست اهتمامها بالقضايا الوطنية الكبرى، والتغطية الشاملة لمختلف مناطق السودان.

ورغم هذا السجل الزاخر، لم تجد الصحافة الإقليمية الاهتمام المستحق من المشرعين عند إعداد قوانين الإعلام. فغالبًا ما تُسند مهمة إعداد هذه التشريعات إلى لجان من المركز، تُشكَّل على أساس العلاقات الشخصية والقرابة، دون إشراك صحفيين أو قانونيين من الولايات، وكأن الأقاليم تفتقر إلى الكفاءات المؤهلة للمشاركة في صياغة مستقبل الإعلام الوطني.

وفي ذات السياق، تجدر الإشارة إلى صدور عدد من الصحف الإقليمية الحديثة التي واجهت تحديات قانونية وإدارية، منها: صحيفة “بورتسودان مدينتي” (نوفمبر 2005م)، والتي صدرت عن منظمة “بورتسودان مدينتي”، قبل أن تتوقف لفترة نتيجة صراع مع السلطات الولائية، ثم عاودت الصدور في مايو 2008م كشركة مرخّصة.

صحيفة “أمواج”، الصادرة عن رابطة الإعلاميين بولاية البحر الأحمر.

صحيفة “صوت برؤوت”، التي أصدرتها شركة الثغر للطباعة والنشر في نوفمبر 2008م.

صحيفة “البُحير”، التي ظهرت في نيالا عام 2015م وسلطت الضوء على قضايا الإقليم، وكان رئيس تحريرها الأستاذ أبو عبيدة عوض.

إننا لا نرصد ما دار في الورشة النقاشية فقط، بل ندعو إلى إحياء ودعم الصحافة والإعلام الإقليميين، وتعزيز دور المراسلين الصحفيين خارج الخرطوم. بل إن الصحف القومية نفسها تحتاج إلى إنشاء مكاتب دائمة في الولايات لتفعيل رسالتها الوطنية.

وليس غريبًا أن تكون صحيفة كردفان أول من بادر بهذا، إذ اعتمدت مراسلًا لها في مدينة الفاشر، ما شكّل سابقة مهمة في تاريخ الصحافة السودانية.

إن وجود مكاتب صحفية فاعلة بالأقاليم يُعد ضرورة لمواجهة النزعات القبلية والجهوية التي تهدد بنية المجتمع بالتشظي والانقسام. ومن المؤسف أن تظل الصحافة الإقليمية موجودة لكن مهملة، تنبض بالحياة لكن لا تجد من يرعاها.

 

إن تجربة صحيفة كردفان، بما قدّمته من ريادة ومبادرة، ينبغي أن تكون محفزًا للجهات المسؤولة في الدولة لمراجعة سياساتها الإعلامية، والاعتراف بدور الصحافة الإقليمية في البناء الوطني، لا تهميشها وتجاهلها.