إلى الدكتور كامل إدريس قبل تشكيل الحكومة المقبلة (4)

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

إلى الدكتور كامل إدريس،

وأنتم تستعدون لإعلان حكومة جديدة وسط هذا الظرف العصيب الذي تمر به بلادنا، أكتب إليكم، لا بدافع المجاملة ولا من باب الولاء السياسي، بل من منطلق الحرص الصادق على مصلحة السودان، ومساهمةً بالرأي في تشكيل حكومة ترتكز على الكفاءة والولاء للوطن.

في رسائل سابقة، عرضتُ ثلاث شخصيات أراها مؤهلة للمشاركة في عملية بناء الدولة على أسس جديدة. واليوم، أحدثكم عن شخصية رابعة أرى فيها نضج التجربة، ووضوح الرؤية، ونقاء المقصد. أحدثكم عن المهندس محمد كرتكيلا صالح، وزير الحكم الاتحادي، الرجل الذي استطاع أن يقود واحدة من أكثر الوزارات حساسية وتعقيداً في زمن تتلاشى فيه البنى المؤسسية وتتصدع فيه الهياكل الإدارية للدولة.

في وقتٍ تتراجع فيه الثقة في السلطة التنفيذية، وتغيب فيه الكفاءة خلف جدار المحاصصات السياسية، برز محمد كرتكيلا صالح كشخصية استثنائية تعمل في الظل، بعيداً عن الإعلام والصخب، لكنه يُحدث تأثيراً ملموساً. لا شعارات، لا خطب، فقط عمل ممنهج، واتساق بين القول والفعل.

كرتكيلا ليس مجرد وزير إداري؛ بل رجل دولة يفهم التوازنات الدقيقة، ويستوعب متطلبات اللحظة الوطنية. أدار وزارة الحكم الاتحادي بعقلية إصلاحية هادئة، غير مأخوذ بضجيج الساحة، بل منصتٌ لهموم الولايات، ومراقب دقيق لأداء الولاة، ومبادر بتبنّي القرارات الصحيحة، مهما كانت جريئة أو خلافية.

لا يمكن الحديث عن أداء كرتكيلا دون التوقف عند تبنيه لمبادرات ولاة الولايات وتحويلها إلى سياسات اتحادية. والأمثلة على ذلك حية وماثلة، أبرزها:

قرار إعفاء رؤساء الإدارات الأهلية المرتبطين بالولاءات القبلية لصالخ مليشيا الدعم السريع وهو قرار بادر به والي جنوب دارفور المكلف، الأستاذ بشير مرسال حسب الله، وكان له أصداء إيجابية في تحجيم النفوذ القبلي الاستنفار لصالح مليشيا الدعم السريع

قرار إيقاف الموظفين المتعاونين مع مليشيا الدعم السريع، وهو أيضاً مبادرة من والي جنوب دارفور، اعتمدتها الوزارة كسياسة عامة لحماية مؤسسات الدولة من التغلغل المليشياوي.

هذا التفاعل الإيجابي مع المبادرات الولائية يكشف عن عقلية وزير لا يحتكر القرار، بل يسعى إلى توسيع دائرة المشاركة، ويعمل على تكريس مفهوم الدولة المتعددة المستويات بشكل حقيقي، لا صوري.

ولأن وزارة الحكم الاتحادي تمثل ضمنياً إحدى حصص الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال بقيادة الفريق مالك عقار إير، فإن اختيار كرتكيلا لم يكن مجرد مكافأة سياسية، بل رهانه على شخصية قادرة على أن تكون جسر تواصل حقيقي بين قوى الكفاح المسلح والدولة، لا مجرد ممثل لحركة أو فصيل.

استطاع كرتكيلا أن يحوّل هذا الدور إلى مساحة توفيق بين مطالب الهامش ومؤسسات المركز، معتمداً على حنكته السياسية وتجربته في الإدارة المجتمعية. لم يكن مجرد صوت للحركة داخل الحكومة، بل صوت للعقل والحوار، وللسودان الواحد، الذي يتسع لكل مكوناته.

لماذا يجب أن يستمر؟

الإجابة بسيطة: لأننا بحاجة إلى وزراء ينتمون للواقع لا للواجهة، للحلول لا للشعارات.

في خضم الصراع، برزت وزارات تحولت إلى عبء على الدولة، لكن وزارة الحكم الاتحادي تحت قيادة كرتكيلا، ظلت واحدة من الوزارات القليلة التي أدت دورها باقتدار، وضبطت علاقتها مع الولايات بقدر عالٍ من المهنية، رغم الانفلات الأمني والسياسي.

استمرار كرتكيلا في الحكومة المقبلة يعني الحفاظ على هذه المكتسبات، ودفع التجربة إلى الأمام، خاصة إذا أُتيحت له صلاحيات أكبر وأدوات دعم مؤسسية حقيقية. كما أن وجوده يعزز من الثقة بين المركز والهامش، في وقت تتزايد فيه المطالب الفيدرالية والانفصالية، ويعطي انطباعاً بأن الدولة ما تزال قادرة على تقديم كفاءات وطنية من مختلف المشارب والمناطق.

دعوة للتفكير بعمق

د. كامل إدريس، أنتم مقبلون على مهمة مفصلية، ولا شك أن أعين الملايين من أبناء السودان تترقب تشكيل حكومة تختلف عن سابقاتها، لا في الوجوه فقط، بل في الفكر والنهج والأداء.

إن تجربة الباشمهندس محمد كرتكيلا صالح في وزارة الحكم الاتحادي جديرة بأن تكون أنموذجاً لما يجب أن يكون عليه الوزير في المرحلة القادمة: مسؤول منفتح، عملي، نزيه، غير متورط في فساد ولا تواطؤ، يعمل بضمير ويضع الوطن في قلب القرار.

ختاماً نحن في لحظة حرجة من تاريخ السودان، لحظة لا تحتاج إلى “مغامرين سياسيين”، بل إلى عقلاء يؤمنون بالدولة، ويحترمون المؤسسات، ويعرفون قيمة المواطن.

المهندس محمد كرتكيلا صالح لا يُقاس بأحجام الألقاب، بل بحجم ما أنجزه في واحدة من أصعب الوزارات، وأخطر الفترات. استمرار أمثاله هو ما يمكن أن يُحدث الفرق بين إعادة تدوير الفشل، أو تأسيس عهد جديد.

فلنختر الطريق الصعب: طريق الكفاءة.

ولنمنح هذا البلد فرصة أخرى للبناء الحقيقي.