هل يخشى مبارك الفاضل أن تكون نهاية الجنجويد… نهاية الدولة المهدية؟علي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضلُّ الحراز

بقلم: علي منصور حسب الله

عندما يتأمل المرء تصريحات مبارك الفاضل المهدي خاصة في السنوات الأخيرة قد يخاله خصماً شرساً للإسلاميين بل ويكاد يُصنَّف ضمن معسكر مقاومة الإسلام السياسي إذ لا يتردد الرجل في وصفهم في مناسبات عديدة بالمتاجرين بالدين ويؤكد في كل مرة تمايزه عن مشروعهم الفكري والسياسي لكن هذا الموقف المعلن سرعان ما ينهار أمام قراءة متأنية لمسيرته السياسية وسياق علاقاته التاريخية التي تكشف عن صلات عميقة ومتشابكة مع ذات التيار الذي يدّعي الابتعاد عنه في واقع الأمر فإن الخلاف بين مبارك الفاضل والتيار الإسلامي وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين لا يتجاوز حدود التباين السياسي السطحي ولا يمس جوهر العلاقة التحالفية ولا يقطع مع الإرث المشترك هو اختلاف في الأسلوب لا في الرؤية وفي الشكل لا في الجوهر وفي المواقع لا في المبادئ ولتفسير هذه العلاقة المعقدة بين مبارك الفاضل والإسلاميين لا بد من الرجوع إلى الجذور الفكرية والعائلية التي أفرزت هذا التقارب

تُعدّ المهدية النواة الأولى للإسلام السياسي في السودان فقد نشأت في أواخر القرن التاسع عشر كحركة دينية عسكرية قادها محمد أحمد بن عبد الله بن فحل المعروف بالمهدي ورفعت شعار الجهاد ضد الحكم الخديوي العثماني وبعد سلسلة من المعارك أعلن المهدي في عام 1885 قيام دولة المهدية التي لم تكن مجرّد حركة تحرّر وطني بل مشروع سياسي ديني متكامل أسس لنموذج بديل للحكم الإسلامي.

ومن رحم هذه الدولة وُلد لاحقاً حزب الأمة الذي مثّل الامتداد السياسي الطبيعي للفكرة المهدية وواصل عملية مزج الدين بالسياسة معتبراً أن الدين مرجعية أساسية للعمل العام هذا الامتداد كان يتغذّى على إرث المهدية ومقولاتها الدينية ما جعل حزب الأمة جزءاً من بنية الإسلام السياسي وإن بصيغة صوفية طائفية تختلف عن الصيغة السلفية الحركية للإخوان المسلمين

بعد الهزيمة الكارثية للدولة المهدية في معركة كرري عام 1898م تحوّلت الحركة المهدية من دولة إلى كيان اجتماعي سياسي يقوده عبد الرحمن المهدي والد الصديق المهدي،وجد مبارك الفاضل إذ إن الفاضل المهدي هو الأخ الأصغر لجده عبد الرحمن المهدي استطاع في ظل الاحتلال البريطاني أن يعيد ترتيب الأوراق فبدأ مسيرته من منفاه في الشكابة وجزيرة الفيل ثم تحوّل تدريجياً إلى زعيم سياسي وروحي وظّف الدين كأداة للنفوذ الاقتصادي والاجتماعي.

ففي عام 1908م سمحت له الإدارة البريطانية بزراعة أراضي في الجزيرة أبا فاستقدم أتباع المهدية والأنصار لتعميرها دون أجر تحت شعار بليلة وبركة مما أسس لأول نموذج لاستثمار الرمزية الدينية في بناء النفوذ المادي والسلطوي هذا النهج وُرّث لاحقاً للأحفاد بمن فيهم مبارك الفاضل الذي سار على ذات الطريق حيث توظيف الدين والعائلة في العمل السياسي أصبحا أمرين مترابطين لا ينفصلان في أعقاب الحرب العالمية الأولى شارك عبد الرحمن المهدي في وفد سياسي إلى بريطانيا برئاسة السيد علي الميرغني في عام 1919م وهناك قدّم سيف المهدي كهدية إلى الملك جورج الخامس في مشهد رمزي مثير فسّره البعض على أنه إعلان صريح عن نهاية مرحلة الجهاد وبداية حقبة جديدة من المساومة السياسية هذه الخطوة جلبت عليه انتقادات حادة واعتُبرت تنازلاً عن المبادئ المهدوية الأصلية لصالح مصالح ذات طابع نفعي وتصالحي مع المستعمر

وهكذا بدأت العائلة المهدية تحوّلها من رمز للمقاومة إلى فاعل في سياسة المصالح ومن الطهر الثوري إلى البراغماتية وهي السمة التي واصلت ملازمة أبناء هذه العائلة في مختلف محطات السياسة السودانية ومع دخول جماعة الإخوان المسلمين إلى السودان في منتصف القرن العشرين عبر طلاب عائدين من مصر أبرزهم جمال الدين السنهوري بدأ الإسلاميون يتمددون سياسياً واجتماعياً وبالرغم من مقاومة البريطانيين لهم في البداية فإنهم سرعان ما بدأوا في بناء علاقات وظيفية مع بعض القوى التقليدية ومن بينها بيت المهدي ورغم التباين في الخطاب الظاهري بين مبارك الفاضل والإسلاميين إلا أن السجل السياسي يُظهر تحالفات متكررة بين الجانبين. فبعد انقلاب جعفر نميري عام 1969م الذي قاده ضباط يساريون شكّلت المهدية تحالفاً واسعاً ضد النظام ضمّ الإسلاميين أيضاً وفي معركة الجزيرة أبا عام 1970م تحالفت قيادات الأنصار بقيادة الإمام الهادي المهدي مع الإسلاميين بقيادة الشيخ محمد صالح عمر محمد الأمين والشيخ محمد محمد الصادق الكاروري ومهدي إبراهيم وقطبي المهدي وغيرهم كانت المعركة دموية قُتل فيها المئات بينهم محمد صالح عمر وهرب الإمام الهادي إلى إثيوبيا بصحبة الكاروري الذي أُعدم لاحقاً التحالف نفسه تكرر في محاولة انقلاب 2 يوليو 1976م بقيادة العميد محمد نور سعد بمشاركة حزب الأمة الإخوان والاتحادي الديمقراطي وبدعم مباشر من ليبيا لكن فشلت العملية بعد تسريبها وأُعدم معظم المشاركين ووُصفوا بالمرتزقة في عهد نظام الإنقاذ بقيادة الإسلاميين تولّى مبارك الفاضل منصب مساعد رئيس الجمهورية وهو منصب لم يكن صدفة بل نتيجة صفقة سياسية واضحة لعب دوراً فاعلاً في تلك المرحلة وظهر أحياناً كأحد المدافعين عن النظام قبل أن ينقلب عليه عندما تضاربت المصالح لكن حتى حين اختلف معهم لم يكن ذلك على خلفية فكرية بل بسبب صراع نفوذ

بل إن العلاقات بين مبارك الفاضل وقيادات الإسلاميين لم تكن سياسية فقط بل تعدتها إلى مصاهرات اجتماعية في تقليد سوداني عريق يُوظف المصاهرة كأداة لبناء التحالفات السياسية وتلطيف الصراعات من ذلك مصاهرة الشيخ حسن الترابي لآل المهدي، ومصاهرة الشيخ علي عثمان محمد طه لآل هباني الذين بدورهم هم أخوة غير اشقاء لعبد الله الفاضل المهدي كذلك إبراهيم أحمد عمر المتزوج من عمة مبارك الفاضل نفسه وفي السودان حيث الطابع الطائفي والقبلي يغلب على المشهد السياسي تشكّل المصاهرة أداة ناعمة لضبط إيقاع الخلافات وتُستخدم لتأمين التحالفات أو على الأقل منع انهيارها الكامل

والإسلام السياسي كما يتجلّى في حالة السودان حمل في طياته دائماً نزعة قومية عروبية مغالية تتجلى في عقلية الفزع التي مثّلها الخليفة عبد الله التعايشي واستثمر فيها المهديون لاحقاً وقد كانت حواضن الدعم السريع اليوم في مناطق غرب السودان تمثّل الامتداد الجماهيري الطبيعي لحزب الأمة لذلك لم يكن غريباً أن يقوم الصادق المهدي وفضل الله برمة ناصر خلال الديمقراطية الثالثة بتسليح المراحيل الذين كانوا في الأساس الجناح الأهلي للجنجويد لاحقاً

وعليه فإن تخوف مبارك الفاضل من هزيمة قوات الدعم السريع(الجنجويد) لا ينبع من حرص على الأمن القومي بل من إدراكه أن هذه القوات تمثل القاعدة الجماهيرية التاريخية لحزبه وحاضنته الاجتماعية والسياسية لذا جاء تصريحه بأن الإسلاميين هم من أطلقوا الرصاصة الأولى في سياق هذا الدفاع غير المباشر عن حلفائه التقليديين فالخلافات التي يُظهرها مبارك الفاضل مع الإسلاميين عند تحليلها بتمعن تتضح أنها خلافات شكلية تُعبر عن تنافس على السلطة والنفوذ لا عن اختلاف جوهري في المبادئ أو الرؤى الفكرية فهو ينتقد الإسلاميين حين يكون خارج دوائر الحكم ويتقارب معهم عندما تلوح في الأفق فرصة للنفوذ أو العودة إلى السلطة وعلى الرغم من تبنيه لخطاب نقدي ضد الإسلام السياسي إلا أنه لم يقدم يوماً بديلاً فكرياً متماسكاً بل ظل يدور في ذات الحلقة المفرغة التي جمعت بين المهدية الإسلاميين حيث الدين جزء من السياسة والشريعة مصدر للتشريع والهوية السودانية ذات طابع أصيل يختلط فيه الموروث الديني بالعروبي

كلها شعارات لا تختلف كثيراً عن الخطاب الإسلاموي سواء بصيغته الإخوانية أو السلفية أو حتى النسخة الإنقاذية التي حكمت السودان لثلاثة عقود

خاتمة فلا عيب في السياسة أن يتحالف المرء مع من يشاء فهذا من طبيعة الفعل السياسي خاصة في واقع هش ومعقد مثل الواقع السوداني غير أن المعيب هو ادّعاء العداء الزائف وارتداء عباءة المدنية حيناً والتدين حيناً آخر حسب المقام والمصلحة إن مبارك الفاضل رغم كل محاولاته لتقديم نفسه كخصم للإسلاميين لا يمكن فصله عن النسق السياسي والفكري الذي نشأ فيه وترعرع المهدية بحمولتها الدينية والسياسية هي الحاضنة التي شكلت وعيه ومواقفه ووفّرت له منصة الحكم والتحالفات منذ بداياته فالخلاف بينه وبين الإسلاميين لم يكن يوماً خلافاً مبدئياً أو أيديولوجيا بل مجرد صراع على الكرسي لا على ما يُبنى فوقه من مشروع فكري أو رؤية مستقبلية لقد مثّلت المهدية في نسختها الحديثة أحد أهم المكونات التي أعادت إنتاج الإسلام السياسي في السودان وتحالفها المتكرر مع الإخوان المسلمين وغيرهم لم يكن طارئاً بل جزءاً من سيرورة ممتدة من التوظيف السياسي للدين بدأت بسيف المهدي وانتهت ببندقية الجنجويد